عبر التاريخ الإنساني لم تنتج العامة (الدهماء) أفكارا تحولية، على الرغم من التضحيات الهائلة التي تقدمها، وعلى الرغم أيضا من الخسارات الكبيرة التي تتسبب بها، لكنها ظلت وقودا لثورات الأفكار التي يصنعها أفراد هنا وهناك، وفي حالات التغيير الكبرى تظل الحاجة ملحة للأفراد لا للدهماء، وما يعتمل في الساحة العربية والعراقية بخاصة ينبه الزعامات الكبيرة التي تقود التغيير إلى اللحظات الحرجة التي لا بد آتية لتصنع المستقبل بعد التجارب الفاشلة التي لم تنتج لنا سوى الخراب. وما تقف من أجله جماعة تمرد في البصرة يدعو الجميع لتأمل المشهد الذي قد يضيع في لحظة لم تدرس بما فيه الكفاية. وبحساب الزمن العراقي فأن التيارات الدينية وعلى مدار قرن من التحولات لم تتقدم بمشروع وطني خالص، يحفظ البلاد من خطر الانقسام والفرقة والوقوع بيد الطوائف إنما ظلت حبيسة مشروعها السلفي ومن ثم الفئوي ثم أخذت الفئات بالانشطار. وهكذا وجدنا ان انقسام البلاد يسير بخطى متعجلة على يد التيارات هذه في ظل غياب كامل للمشروع الوطني الخالص، الذي كثيرا ما نادت به القوى العلمانية، والمؤسف جداً ان الاستعانة في تنفيذ أي مشروع من هذا النوع إنما يتم بالعامة (الدهماء) الوحيدة التي تستطيع تغذية الشارع والتي لمّا تدرك بعد مصلحتها تماماً، وهذا ليس انتقاصا لكنه المشهد الذي ظل يتكرر لا في العراق وحده بل في كثير من البلدان. وبحسبة عراقية بسيطة نجد أن جماعة تمرد في البصرة- جماعة مستقلة- تنادي بتحسين واقع الكهرباء، وقد مرّ أسبوع على دعوتهم ووقوفهم أمام مبنى المحافظة، لم تجد حتى الآن من يلتف وبقوة خلفها من العامة، أو السواد الأعظم من الناس، وهم جميعهم متضررون من قضية الكهرباء وسوء الخدمة المدنية. وقد ظلت المجموعة تتقدم بمشروعها الذكي الهادف عبر مطالب مشروعة غاية في التنظيم والدقة، لكنهم لم يتمكنوا من تحشيد جماهيري كبير، مع اليقين العام بضرورة الوقوف معهم، وهنا يبرز السؤال الأكبر: ترى إذا كانت "الدهماء" لا تقف مع من يطالب بحقوقها التي منها قوام حياتها، لماذا تلتف وتقفز وتقاتل مدفوعة عند قضية بسيطة مثل واقعة مقاهي الكرادة؟ إن السؤال هنا يستدعي الاجابة البسيطة، وهي أنها لا تفهم مصلحتها، هي تنقاد بسهولة، هي خطرة جداً في عملية التغيير. الحضارة نتاج فردي، والتحولات الكبيرة في البلدان قامت على أساس الأفكار التي تبناها اناس كبار، مفكرون وعلماء امتلكوا آليات التغيير، عرفوا الطريق اليه فكان. و اليوم وبعد أكثر من سنوات عشر لا نجد "عبقرية عراقية" فعلت شيئا يذكر، لم نتمكن من تسمية شخصية عراقية بمنجز استثنائي، لا في السياسة ولا في الاقتصاد ولا في الأمن وسواها من دعائم التغيير. هل نقول ان المالكي عقل سياسي، وهل كان عبود قنبر عقلا عسكريا، وهل الشهرستاني عقل نفطي كهربائي؟ وهكذا وبفعلٍ من تخبطٍ وجري وراء الشائع والمحتشد والغاضب المندفع لم نتمكن من تسمية شخصية اقتصادية مثل الدكتور احمد الجلبي، لأننا لم نضعه في موقعه الصحيح، فقد أضعناه مثلما أضعنا شخصية عدنان الباجه جي، والأمر ينسحب حتى على سنان الشبيبي ومظهر محمد صالح في المال والقائمة تطول، هل نجد بين الدهماء من يتذكر هؤلاء؟ هل تستطيع العامة (الدهماء) أن تقود الشارع العراقي وتحقق رغبات الملايين في حياة الرغد والهناءة والمستقبل؟ أبداً، المشكلة اليوم أننا نفتقد لحزب سياسي، أي منظومة اجتماعية –سياسية، قادرة على لملمة شعث الفكر العراقي، جمع العلماء والمفكرين ونخب الثقافة والاقتصاد والجيش وكل مفاصل حياتنا من اجل تسمية الصورة القادمة بعيدا عن ضجيج الشارع. ولعل ما قرأناه من أفكار في اللقاء الذي أجرته المدى مع السيد ضياء الأسدي، ما يضع لنا الخطوة الصحيحة الأولى.
|