معوقات إنطلاق مشروع عراقي للتغيير |
الأفكار الأولية التي عرضتها في مقالي الأسبوع الماضي على صفحات «العرب» الغراء حول فكرة الدعوة إلى قيام مشروع سياسي عراقي عابر للطائفية كمخرج وحيد للأزمة السياسية المستحكمة بالوضع العراقي منذ التاسع من نيسان 2003 ولحد اليوم، لاقت ردود أفعال متباينة خصوصاً عند بعض السياسيين العراقيين المشاركين بالعملية السياسية، أو من بين الذين هم خارجها. وما عرضته هي أفكار سياسية أولية، لتنشيط الحوار بين المثقفين والسياسيين المعنيين بالشأن العراقي، لكي تشكل هذه الحوارات والتعقيبات منطلقات لهذا المشروع الحيوي، سواء على مستوى الفكر السياسي أو التطبيق السياسي الصالح للظروف التي يمر بها العراق. وقد لمست أن هناك إحباطاً عاماً ويأساً من إمكانيات الخروج بحلول وطنية، بعدما فعلته «العملية السياسية» ونتائجها الراهنة في استفراد حزب ديني مذهبي بحكم العراق، وهي نتيجة تؤكد عدم استقراره على جميع المستويات، وتجربة الحكم السابق في الاستفراد الحزبي رغم كل ما امتلكه النظام من إمكانيات القوة كانت واضحة ولا تحتاج إلى تفصيل. المشكلة التي تواجه أية محاولة جدّية من خارج إطار الحكم، هي الكم الهائل من العقبات اللوجيستية بالعمل السياسي العراقي، والمقدار الكبير من التخريب النفسي والسياسي الذي حصل لدى غالبية النخب السياسية والمثقفة والواجهات الاجتماعية العشائرية والدينية منذ الأسبوع الأول للاحتلال، والأساليب الجديدة في العمل من بين من جربوهم داخل العملية السياسية للسنوات الماضية، بطرق البحث عن القوى الاجتماعية النافذة، والتي أصبح لشيوخ العشائر ووجهائها دور مهم في تقدم هذا الكيان السياسي أو ذاك بعد كسبهم بوسائل الكسب المعروفة، (من يمتلك قطاعاً عشائرياً واسعاً يتمكن من إمساك وسائل الفوز على الخصوم الآخرين) وهذه اللعبة لها مخاطرها، في ضياع إمكانيات الانطلاق بمشروع عراقي غير طائفي مختلف عن السائد. ويمكن تلخيص أهم الهواجس التي تصاحب أي مخلص وطني يحاول تجاوز حالة الاستسلام للواقع السياسي السيء :: أولاً- الأفكار النظرية والتمنيات النزيهة العامة لا تحدث هزة في الماء الراكد الآسن، فهناك قوى وجهات تمركزت في حكم العراق، وهي مقتنعة بعدم وجود منافس سياسي قوي يزيحها، ومرتاحة كذلك أن تبقى المشاريع الوطنية في حدود النظريات وعلى صفحات الجرائد أو الندوات التلفزيونية. الموجودون في الساحة السياسية مسيطر عليهم بالتخويف والإغراء ضمن اللعبة الطائفية المقيتة في الحكم. فمثلا القوى التي غنمت الأصوات في مجالس المحافظات أخيراً، وتدعيّ تغيير موازين القوى، هي جزء من لعبة المثلث الطائفي (السني- الشيعي- الكردي) فماذا تبدل؟ هل تقدم الرقم الثالث أو الرابع إلى الأول في الضلع السني سيّغير المعادلة. فالدينامية الديمقراطية التي وضعها بريمر، ما زالت هي المستحكمة باللعبة الانتخابية، وهي قادرة على مواجهة أية دعوة وطنية جادة، وهناك الاتهامات الجاهزة التي أصبحت سلاحاً فاعلاً لإخماد أية محاولة سياسية مغايرة للسائد (الإرهاب والبعثيين والخضوع للأجندات الخارجية). ثانياً- الخطر الأكبر هو تحوّل العراق إلى مقدمة البلدان الفاسدة والفاشلة في العالم. لقد أصبح الحديث عن المليارات كالحديث عن فيلم الخيال المرعب. رئيس لجنة الطاقة في البرلمان العراقي تحدث قبل أيام عن ضياع ما لا يقل عن مائة وعشرين مليار دولار في السنة جراء النهب في الطاقة والنفط. في حين تبلغ الميزانية السنوية رقماً مماثلاً للنهب، لكن الحماية موفرّة لجميع هؤلاء المسؤولين، وما زال المواطنون لا يحصلون على حصتهم من الكهرباء والماء الصالح للشرب والغذاء الكافي، وما زالت دول العالم الغربي والأميركي تستقبل آلاف اللاجئين العراقيين لحد اليوم. الأخبار اليومية تتحدث من مصادرها الحقيقية عن شراء فلل وعمارات بملايين الدولارات في دبي أو لندن لأشخاص نافذين في السلطة لم يكن دخلهم يتجاوز إعانات بلديات دول اللجوء. في البلدان الديمقراطية التي يدعي حكام بغداد إن العراق اليوم أحداها: يستقيل المسؤول الأول في الحكومة لمجرد شبهة فساد تطال أحد نوابه أو وزرائه، ومثال ذلك: استقالة رئيس وزراء التشيك لشبهة فساد طالت أحد وزرائه، والرئيس الألماني كريستيان وولف قدم اعتذاره للشعب الألماني لأنه أنكر قبل توليه الرئاسة حصوله على قرض عقاري لبناء داره بكلفة خمسمائة ألف يورو، وغيرها كثير. في حين تعيش الحكومة مرتاحة على بحيرة من الفساد ولا يوجد من يحرجها، لأن الجميع مشترك في التربع على هذه البحيرة. أليست عملية تنظيم حملة شعبية في الرأي العام يديرها تنظيم سياسي وطني نزيه تكفي لإنجاحه، وإعادة حقوق الشعب بعد عشر سنوات من النهب المافيوي المنظم؟ ثالثاً- التجربة المرّة التي قدمتها «القائمة العراقية» والتي رفعت راية المشروع الوطني، ثم تفكك أطرافها نتيجة الضغوط الهائلة من قبل الحاكم الأول في العراق والممتلك لجميع الوسائل والأدوات السياسية والأمنية، وأصبحت عاجزة عن لعب الدور السابق بعد تشتت قادتها وبحثهم عن زعامات ذات طابع «طائفي» مباشر لوراثة زعامة رئيس القائمة «الشيعي» إياد علاوي وبدعم من المالكي خصمه الأول، وهناك من يقول: نعم لمشروع عابر للطائفية، ولكن دون الدخول بالعملية السياسية والأفضل هو التثقيف العام عبر وسائل الاتصال الإعلامية، ويرى البعض الآخر وهم من الذين قاوموا الاحتلال العسكري الأميركي «إن طريق المقاومة وإسقاط العملية السياسية» هو الحل الأسلم. رابعاً- التحكم الإقليمي بالوضع السياسي العراقي، رغم ما يخلفه وسيخلفه هذا النهج الاستسلامي من مخاطر على كيان العراق ووحدته. فلا يشك أحد بالتأثير الإيراني الهائل على القرار الحكومي العراقي، في ميادين داخلية وعربية واضحة، تؤكد حرص طهران على تمتين مركز نفوذها في العراق كمفتاح مهم للمنطقة، خصوصاً سوريا التي تعيش انحداراً سريعاً من التدمير الشامل إلى مهاوي التقسيم الطائفي الذي يهدد العراق أيضاً بفعل هذا النفوذ الإيراني. ولاحظنا كيف أثيرت ضجة مفتعلة على التصريحات الصحفية الجريئة لوزير الخارجية العراقي هوشيار زيباري حين قال الحقيقة حول مرور وسائل الدعم العسكري الإيراني لنظام بشار عبر العراق «نحن واقعين بين نارين: طهران وواشنطن ونحن غير قادرين على التحكم بهذا الأمر». إن دعوة إيران بعدم التدخل وسحب نفوذها من العراق، ليست دعوة عدائية ضدّها مثلما يظن البعض، ولكنها لتصحيح العلاقة بين دولتين متجاورتين مستقلتين. إن ما يحتاجه المثقفون والسياسيون في المرحلة الحالية، ليس البحث عن مبررات قيام مثل هذا المشروع، بل عليهم تجاوز حالتين تعيقان العمل المنظم: أولاهما اليأس والتسليم لمقدرات الوضع السياسي المستحكم، والانقياد إلى الخطاب السياسي الحاكم القائل بأن من يريد التغيير عليه الدخول تحت خيمة الحكم حتى عبر «معارضة مدّجنة». وهو منطق لا يختلف عن المنطق الذي ساد قبل 2003. والثاني: العرض الموضوعي البراغماتي لهذا المشروع المتخلص من الإطار النظري المجرد، الخالي من المصالح الفئوية والذاتية والداعي إلى هبة سياسية نخبوية مستشعرة بمخاطر الوضع المتردي للعراق، تحارب الطائفية التي تغلغت بين أوساط المجتمع العراقي. إن تعدد المشاكل التي يعيشها العراق وفروعها الكثيرة قد تعيق أية محاولة جادة لوضع الحلول السياسية الجذرية، فالعراق وخلال العقد الأسود الذي مر به خضع الى دوامة من المشاكل الفرعية التي تتفرخ يومياً لدرجة انغلاق الرؤية، وضياع الصوت وسط الضجيج، كما إن الأرتال الطويلة من الكيانات السياسية ذات المنابع الطائفية، والزعامات البرلمانية والسياسية هي التي تغطي الساحة الإعلامية وتزيد من تشويش الصورة، مما يتطلب من النخب المثقفة تحديد العقد الرئيسية في مشاكل العراق وفق رؤية وطنية واضحة. لا بدّ من سدّ الفراغ السياسي الذي يهيمن على الواقع العراقي بمشروع وطني يعبر عن الشعب الواحد. د. ماجد أحمد السامرائي – لندن |