يقول دريد لحام في مسلسل سنعود بعد قليل لاحد أصدقائه القدامى: "لا تهتم للمصائب. تعودنا على قبول كل شيء"، تذكرت هذه الجملة وانا ارى حالة التلبد التي أصابت مسؤولينا خلال الأشهر الماضية.. لم يعد مهما كم عدد الضحايا، ولا حجم الخراب الذي اصبح مؤخرا موضوعا يمكن أن يناقش في البرلمان، حيث استنهض النواب بالامس كل قواهم ليقرروا مناقشة التدهور الامني، ولكن ليس اليوم.. وانما بداية الأسبوع المقبل.. فماذا يعني ان يزداد عدد الضحايا، ما دام البرلمان – مشكورا – قرر أن يسأل: ما الامر؟.. دمرت طوزخورماتو، وهجرت قرى ونواحي في ديالى.. وتحولت التفجيرات الى طقس يومي يعيشه العراقيون.. ومع هذا الامر لايحتاج الى عجالة.. ما دام هناك فاصل من الراحة لنوابنا الاعزاء يعودون بعده اكثر حيوية ونشاطا في مناقشة أحقية النائب بالراتب التقاعدي ومخصصات السكن والمصفحة التي تحافظ على حياته التي هي ثروة لايجوز التفريط بها. يريد ان يقول لنا مجلس النواب، أن ذبح الناس كل مساء ليس مهما جدا، وأن الجريمة فقط في عدم الاتفاق على توزيع المناصب في مجالس المحافظات. فالمسألة هنا ليست عدد الضحايا التي يتسبب بها الجهل والاهمال الامني، بل سمعة العراق التي يمكن أن تهبط الى الحضيض لو لم يصدر لدينا قانون يختص بتحديد اذواق المجتمع العراقي. علينا كشعب ان نتعود على منظر المجازر اليومية فالامر عادي لا يستحق مؤتمرا صحفيا لقيادة عمليات بغداد، ولا بيانا للقائد العام للقوات المسلحة. في كتابه "روح الثورات" يخبرنا المؤرخ غوستاف لوبون ان أكثرية اعضاء مجالس الثورة الفرنسية كانوا مطبوعين على اللامبالاة، محايدين وهم يرون المقاصل تعمل بأقصى سرعتها.. كان شعارهم "مادامت المقصلة بعيدة عن رقبتي فالبلاد تسير على الطريق الصحيح". فيا ايها المواطن العراقي المسكين، لماذا تريد من ساسة "سنعود بعد قليل" ان ينظرون اليك باعتبارك أخاً وشريكاً في الوطن والمصير، وليس تابعا، لماذا تريد أن تصبح "مواطنا" في بلد يعتقد ساسته أن التقدم يعني الحصول على مزيد من المكاسب والمنافع الشخصية.. وان السياسة هي فن الخداع، والاحتفاء بالأكاذيب، والتهالك على الغنائم، مسؤولون يجعلون الخطأ صحيحاً، والحق جريمة، يعدون ولا يوفون، يبنون لك قصورا من الرمال، لا يكترثون لحق، ولا يلتمسون لحقيقة، السياسة في عرفهم سعي محموم وراء الأطماع وتعاون مع الإثم وتحالف ضد الصدق، ثروتهم الضلالة، سياسيون يرفعون شعارات طائفية مقيتة ويرون في كل من يعارضهم عميلا أو واجهة لقوى أجنبية، وكل معارضة لا تسمع ولا تطيع فهي مأجورة وتعمل ضد مصالح البلد، سياسيون تتملكهم الرغبة في التسلط والأنانية المفرطة التي حولت الفساد إلى دولة.. والنخب السياسية إلى مافيات؟ سياسيون بعقول متحجرة من الماضي، منفصلون عن الناس ويعيشون في دنياهم الخاصة المغلقة على طريقة تفكير لا تهتم بمستقبل البلاد قدر اهتمامها بمستقبل الأصحاب والرعايا والمقربين. أيها المواطن المبتلى بمسلسل سنعود بعد قليل.. كنت تأمل أن تعيش في دولة للقانون يتساوى الجميع أمامها، فإذا أنت أمام دولة لها أكثر من قانون يشجع جرائم النصب والاحتيال واستغلال المنصب وترهيب الناس ومطاردتهم حتى آخر مقهى. أيها المواطن: ستظل مخدوعا حين تتصور أن الديمقراطية قدمت إليك ساسة يسعون إلى بناء مؤسسات حديثة، وسيبدعون في الإعمار وإدارة شؤون البلاد أكثر من إبداعهم في فنون السرقة واللعب على الحبال. يضع المفكر الإيراني الراحل علي شريعتى يده على نقطة مهمة تفضح "ساسة سنعود بعد قليل"، فهؤلاء دائما ما يطمحون الى ان ينأوا بانفسهم عن الناس وتراهم جميعا مع الهيئة الحاكمة كتفا في كتف، هم أولئك الذين عبر عنهم القرآن بـ "الملأ" وهم المترفون الذين يشغلون المناصب المهمة في مجتمعاتهم. هؤلاء ينصحنا شريعتي بان نواجههم دائما بمفاهيم الدين الثوري الذى برغم أنه لم يتمكن من أن يسيطر على الحكم، لكنه ظل على الدوام في تاريخنا الإسلامي يواجه دين الطاغوت والمترفين ويدعو الناس إلى التمرد على جبهة "الملأ" لإقرار العدالة الاجتماعية، حيث يسعى دائما لأن يكون وجداناً يقظاً للناس، وليس وليدا للجهل ولا الخوف، فيقفون ضد كل من يبرر الجوع ويسببه باسم الدين، ويصبح شعارهم الدائم قول أبى ذر الغفاري: "عجبت لمن لا يجد قوت يومه كيف لا يخرج على الناس شاهرا سيفه"، وهي الجملة التي اختفت من قاموس جميع قادة ووعاظ احزابنا الدينية، لأنها لم تعد صالحة للاستخدام بعد وصول جماعة "سنعود بعد قليل" إلى كرسي الحكم، لأن ما يهمهم الآن، ليس قول أبي ذر الغفاري، انما جملة المالكي: بعد ما ننطيها."
|