منذ بدايات الألفية الثالثة , أي بعد مضي أقل من عقد على تولي أمير قطر السابق لزمام الحكم بالأنقلاب على والده والذي تقف وراءه دوائر عالمية على تنسيق مسبق مع القادم الجديد , منذ ذلك التاريخ بدأت قطر تتدخل في أحداث المنطقة العربية بأدوات جديدة ومدعومة بشكل علني من قبل الكيان الصهيوني والولايات المتحدة , وصل التدخل ذروته في ليبيا ناهيك عن الدعم الذي قدمته قطر للمسلحين في العراق .. لم تقف قطر على حد وتجاوزت حجمها لدرجة التضخم المخيف لكثير من دول المنطقة وعلى رأسها السعودية وبقية دول الخليج , بيد أن الأمريكان لا يمكن أن يتركوا الأمور تسير بشكل مفتوح ودون حساب , لذا فقد تعاملت معها بمبدأ أتاحة الفرصة لفرض المشروع الذي تبغيه الولايات المتحدة , لكن لا يمكن أن تبقى الفرصة متاحة وبالتأكيد فهناك شروط تتضمن طبيعة الفشل والنجاح وضمن سقف زمني . ما تحقق هو خيبة أمل كبيرة للدور القطري على المستوى الميداني للأحداث أدت إلى كبح جماح المشروع الذي كان حلم مغري للإمارة وطموحاً قديماً للكيان الصهيوني .
صراع القوى !! دخلت الأزمة السورية عامها الثالث ولم تزحزح نظام الأسد , ولعل أحداث السنة الأخيرة ولّدت شعوراً لدى معارضي النظام قبل غيرهم بعدم صلاحية ذلك الحراك القائم على القتل والإرهاب . ورغم أن الأزمة هناك كانت متناغمة مع ما أُطلق عليه ب (الربيع العربي ) , إلا أنها فقدت التوصيف الموسمي ،بسبب أمتدادها لسنوات بخلاف ما حصل في تونس وليبا ومصر التي شهدت ربيعين بعد موجات من الصيف الساخن ولا زالت سوريا قابعة في خريفا. تركيا التي دخلت الخط بقوة , تحت عنوان غير معلن هو (الشرعية العثمانية ) , بدأت تنسحب بعد أن فوجئت بربيعٍ علماني قادته قوى المعارضة وأغلب الطبقات النخبوية , الأمر الذي أحرج الرئيس أردوغان أمام العالم , فبعد أن كان يتكلم بمبدأ "الديمقراطية" صار فاقداً للسيطرة على أغلب تصريحاته التي يصف بها المتظاهرون بكلمات غير لائقة ومتحدية ! وهذا من شأنه أن يقوّض زبدة المشاريع التركية . فهي فرصة سانحة جداً للدول الرافضة لإنضمام تركيا للأتحاد الأوربي من جهة , ومن جهة ثانية مغادرة حلم الإمبراطورية التركية الذي صُرح به عبر مصطلح (العثمانيون الجدد ) . الأحداث في المشهد السوري تتسارع بأتجاه الحسم لصالح النظام , فيما تبقى المعارضة السورية أسيرة التناحرات والصراعات الداخلية والتجاذبات الإقليمية والدولية , ورغم خسارتها للقوة المتأتية من الدور التركي , بيد أن معولها الأكبر يبقى على أموال وتعهدات قطر التي صارت بعبعاً مخيفاً لأنظمة كثيرة بعد أن دشنت تجربتها الأولى في ليبيا بنجاح كبير ثم أوصلت الإخوان لسدة الحكم في مصر ،وهذا يعتبر أنجاز نوعي ومدعاة للطموح بالمزيد من التغييرات التي تصب في مصلحة أصغر دول المنطقة . شكلت سوريا معضلة كبيرة بوجه الإرادة والطموح والمال القطري , فبعد كل المعونات والتدخلات جاءت لحظة الإفلاس في سوق (القصير ) , تلك المعركة التي تقطعت على أثرها خيوط الممسكين بالعبة !!
فرضية الميدان ..!! السياسة الأمريكية , لا تؤمن إلا بالمصالح والتي لا يوفرها الضعفاء .. فهي لا تتعامل مع الصداقات بقدر تعاملها مع الميدان وما يفرضه من معطيات , يبدو أنها أعطت لقطر الضوء الأخضر لخوض التجربة في سوريا بعد أن تذوق القطريون حلاوة التأثير وسكروا بنشوته التي أظهرتهم لأنفسهم (عمالقة ) !! طالما وصفت الحرب المستعرة في سوريا بأنها حرب كونية ترعاها دول , وبما أن هناك داعمون للنظام السوري ولأسباب متعددة أبرزها تطرف الحراك المسلح الذي تقوده المعارضة وظهور زيف الإدعاء القائل بالديمقراطية بعد عمليات التطهير الطائفي والقتل الوحشي الذي وصل ذروته (بأكل القلوب) ! بالجانب المقابل هناك أطراف داعمة للجماعات المسلحة ومنها الأتحاد الأوربي وتركيا وقطر , وبرغم رغبة الولايات المتحدة بتغيير النظام في دمشق , لكنها لم تتبنى موقفاً صريحا وواضحاً طيلة فترة الصراع ولعلها بقيت تدير الأحداث من تحت الطاولة بأنتظار لحظة صعود القوى المسلحة هناك , وعلى ما يبدو , فأن البيت الأبيض لم يكن واثقاً من تفوق المعارضة ولا يمكن أن يعتمد على رهان خاسر مبقياً على خيوط تربطه مع المستجدات عبر اللاعب الروسي . ظهر الموقف الأمريكي جلياً أثناء معركة القصير , والذي أتسم بالتوافق شبه التام مع روسيا , حيث كانت اللقاءات الثنائية بين الدولتين متقاربة وتتمحور حول الحديث عن جنيف2 والذهاب دون شروط مسبقة .. لم يثني عزم الأتحاد الأوربي على دعم المعارضة بالسلاح ذلك الخيار الأمريكي الذي فضل التعامل مع معطيات الميدان .
تجدر الإشارة إلى أن موقف الأتحاد الأوربي ليس منسجماً فيما بينه , فبريطانيا القوة الأكبر في الأتحاد نأت بنفسها عن دعم المسلحين وفي تصريح لرئيس الوزراء البريطاني نقلته صحيفة "الجارديان" البريطانية يوم 21 تموز قوله:" إن بريطانيا لن تمد المعارضين السوريين بالأسلحة رغم الضغوط الممارسة عليها من أجل الانسحاب من الحظر الذي فرضه الاتحاد الأوروبي على تجارة الأسلحة لسوريا". كما أكد أن المعارضة السورية تشمل " العديد من الأشخاص السيئين" , وأضاف ديفيد كاميرون "أن الرئيس السوري بشار الأسد بات أقوى الآن مما كان عليه في السابق وأنه نجح في تعزيز مكانته خلال الأشهر الأخيرة " . أن الموقف الرسمي للملكة المتحدة هو الترجمة الحرفية والتحليل الواقعي لما تتجه صوبه السياسة الأمريكية , وبالتالي فأنها تبحث عن حلول جديدة ليس ضمنها الخيار العسكري .
حمد خارج اللعبة..!! لم تكن الأسباب(المرضية) المعلنة لتنحي الشيخ حمد لنجله تميم مقنعة على الأطلاق , وما ترشح من تسريبات مقصودة وتحليلات مرتكزة في الغالب على دوائر أستخباراتية كان للسعودية النصيب الأوفر فيها .. ولعل أبرز تلك الأسباب التي أجبرت حمد على التنازل هو الدور القطري السلبي من أحداث المنطقة والذي تجاوز كل الخطوط الحمراء , السعودية التي تعيش في حالة من الصراع الخفي مع قطر(على زعامة الموقف العربي بعد غياب الدور المصري ) لن تتخلى عن حلفها السابق مع القوى المؤثرة في القرار الدولي وعلى رأسها الولايات المتحدة التي بدورها باتت أكثر أنزعاجاً من ذلك الدور المستفحل في منطقة لها قواعدها الغير ممكنة التغيير بهذا الشكل المفاجئ , سيما أن التطرف والإرهاب الديني كان الأداة القطرية الأكثر فاعلية في كل تلك التدخلات الأمر الذي أحرج أمريكا المتحاربة على حدود كابول مع نفس القوى التي تدعمها في دمشق !! . وليس للتقاطعات في المصالح والرؤى السياسية فقط , أثر يترتب عليه تنحية أو عزل رئيس دولة وراثية باتت مؤثرة , رغم ضحالة عمقها التاريخي وصغر حجمها , حيث أن هناك أشياء سبقت تلك الإقالة والتي جاءت مفاجئة بعض الشيء .. أن الفشل الميداني الذي منيت به المعارضة السورية والمتبناة من قبل القيادة القطرية كان هو السبب المباشر في عملية التغيير التي جرت بقطر , ونستطيع من خلال تتبع مجريات الأحداث الربط بين أستقالة الأمير المعزول ومعركة القصير التي تحطمت بها المعارضة السورية , فمن حيث الزمن نجد أن التغيير القطري حدث بعد المعركة ! القواعد الأمريكية المتواجدة في قطر تؤمّن المصلحة القطرية فضلا عن تأمين مصالح أمريكا نفسها , حيث توفر الحماية لدولة ضعيفة ومتدخلة في شؤون الخارج , بالتالي فأن للبيت الأبيض فيتو على قرار الدوحة .. هذه المرة لا يتطلب الأمر تغيير السلوك أو قواعد اللعبة , إنما التغيير الحاسم لتحسين سمعة الدولة الفتية التي لم تعد موثوقة من قبل الجميع .
علامات التغيير .. !! هناك ثمة مؤشرات تؤكد أن ما حصل في قطر هو عملية تغيير مفروضة من الخارج , ومن أبرز تلك المؤشرات ما يلي : 1- أن التغيير الذي حصل تغييراً دراماتيكياً واسع النطاق شمل جميع مفاصل صنع القرار في الدولة القطرية , وعلى رأسهم وزير الخارجية حمد بن جاسم الشخصية المثيرة للجدل والذي يمتلك مفاتيح الملفات الخارجية , سيما أن الأخبار تشير إلى أنه أُجبر على منفى أختياري لأبعاده عن أي تأثير أو تدخل محتمل . 2- أرسال رسائل مطمئنة لأغلب الدول التي على موقف سلبي من قطر , وكنتيجة لما حصل في المرحلة السابقة والتي أعتمدت فيها سياسة الأمير السابق على أحداث شروخ قاتلة بين المكونات المذهبية للمنطقة برمتها , وهذا النقطة معنية بها إيران والعراق بالدرجة الأساس لإنتماءهما لمكون معين , فقد أستقبلت إيران هذا الأمر برحابة شديدة وسارع وزير خارجيتها علي صالحي لزيارة وتهنئة الأمير الجديد .. رئيس الوزراء العراقي (نوري المالكي ) بدوره كان أول المهنئين للقيادة القطرية الجديدة .. وكان آخر هذه الدلائل هي زيارة رئيس المجلس الأعلى عمار الحكيم بعد تلبيته لدعوة من الأمير الجديد يبدو أنها تقديم أثباتات حسن نية تجاه العراق . 3- إغلاق مكتب حركة طالبان في الدوحة , رغم أن السبب المعلن هو رفع لافتة المكتب , لكن الأمر أبعد من ذلك ويعد من ضمن أولويات التغيير المفروضة . وقد أعلنت القيادة الجديدة على تبني منهج الأعتدال في المرحلة المقبلة . 4- أنباء عن إيقاف جميع الأستثمارات القطرية في دول العالم لتجفيف منابع الدعم الذي تقدمه تلك الأستثمارات للجماعات المتطرفة . 5- لا يمكن أن تكون الإرادة الشعبية وحدها المحرك للأوضاع , وما سقوط حكم الإخوان في مصر بشاذ عن تلك القاعدة .. حركة الجيش المصري لها دلالاتها المتصلة بأحداث المنطقة برمتها , فليس لقطر التي دعمت وأوصلت مرسي لدفة الحكم هناك أن تسكت لو قُدر لها أن تسير بمنوالها السابق وتأثيرها المنتهي , إذ ليس هناك أدنى شك بخروج الإخوان من اللعبة وهذا بحد ذاته يترك أنطباعين في أذهان الجميع : الأول , هو رفض القوى الإسلامية المتطرفة من قبل الرأي العام العالمي وبهذا فأننا أمام صيرورة واقع جديد . والثاني , هو تحجيم الدور القطري أو نهاية ذلك الدور في رسم سياسات المنطقة . وليس خفياً على أحد القبول الذي حظيَ به الرئيس المخلوع محمد مرسي من قبل الإدارة الأمريكية في بادئ الأمر , بيد أن ذلك القبول تحول إلى رفض ودفاع عن إرادة الشعب المصري , وما يثّبت هذا الموقف هو تصريح وزير الخارجية الأمريكي جون كيري الذي تنصل من الإخوان وأعتبرهم مصدر خطر على السلم الأهلي في مصر , حيث قال ؛ الجيش المصري جنب مصر حرب أهلية بعزل مرسي ؛ . وقد كتبت صحيفة الفايننشال تايمز في هذا الصدد معتبرة تنحية مرسي أول ضربة توجه للسياسية الخارجية القطرية , حيث أعتبرت الصحيفة أن أي تغير في الخارجية القطرية سيكون تدريجياً .. لكن وعلى ما يبدو فأن قطر تجرعت النصيب الأكبر من الكأس مرة واحد وما تبقى سيكون تدريجياً .
نتائج محتملة ..!! في عمق أزمات المنطقة تجد المال ولأعلام القطري يسعى حثيثاً لأرباك المشهد , التغيير يعني الكثير لدول الأزمات والدول المستقرة على حدٍ سواء , ولعل دول الخليج أمنت شراً كانت تتطير به بأعتباره متربصاً حالماً بالزعامة الكبرى , سيما مع أمتلاك المال والدعم الصهيو-أمريكي . إما دول الأزمة فستشهد غياب أحد أهم المسببات الرئيسية والمباشرة . العراق إذا ما أستثمر المستجدات ولعبها بذكاء سيتحقق له ما عجز عن توفيره بالسلاح والتوافقات الداخلية المولودة ميتة في أغلب الأحيان , وبالفعل , فالحكومة أستقبلت الرسالة القطرية وأبدت أستجابة واضحة , يُذكر أن العراق حذراً مراراً من صعود القوى المتطرفة في المنطقة . اليوم أغلب الدول (الحاضنة والداعمة ) وصلت إلى قناعة راسخة بخطر تلك الجماعات على الواقع السياسي والأمني في المنطقة . زيارة الحكيم والتي قد تؤسس لشيء ما في القريب القادم , تأتي لدعم الدور الذي يقوم به الرجل في رسم السياسة العراقية وطلب مساعدته كونه نجح إلى حد ما في دعواته للتعايش السلمي وجمع الفرقاء على طاولة الحوار .
|