المالكي في الميزان.. نموذج نادر في الفشل المزمن

 

في التعيين للوظيفة الإدارية تطبق قاعدة الجدارة المعروفة: الرجل أو المرأة المناسبة في المكان المناسب أما في ميدان السياسة فالمطلوب هو الرجل المناسب في الظرف المناسب، ومن المؤكد بأن الظرف الذي مر به العراق منذ الاحتلال حتى يومنا الحاضر استثنائي وعلى كل الصعد، وما حدث فيه هو التفكيك شبه التام لمؤسسات الدولة من نظام سياسي وجيش وجهاز أمني وتنظيم حزبي، وبسرعة مذهلة ومن دون تخطيط مبكر، ومن ثم إعادة أو محاولة إعادة البناء المؤسسي للدولة على قواعد جديدة وغير معتادة قياساً على التجربة العراقية، من ناحية أخرى مرت دول أخرى بظروف مشابهة، أو ربما أشد سوءاً، وتمكنت من التغلب عليها، فبعد انتهاء الحرب العامية الثانية واجهت حكومتا وشعبا اليابان وألمانيا ظروفاً مشابهة، فبالإضافة إلى الهزيمة في الحرب والملايين من القتلى والجرحى وقعت أراضي الدولتين تحت الإحتلال وظهرت فيهما خلافات عميقة، لكنهما تمكنا من تجاوز هذه المحنة المصيرية وإعادة بناء دولتيهما اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً، مع التذكير بأن اليابان دولة مشرقية.

للمالكي قدرات ومهارات، مثل كل العاملين في السياسة، وقد ساعدته هذه المؤهلات لبلوغ مركز قيادي في حزبه، لكن من ينجح في قيادة حزب قد لايكون مناسباً لقيادة دولة، أو ربما هو ملائم لرئاسة الحكومة لو كانت الظروف مختلفة، وعلى سبيل المثال اختار البريطانيون ونستن تشرسل لقيادة بلدهم أثناء الحرب العالمية الثانية، وكان أداؤه ناجحاً، لكنهم نحوه بعد انتهاء الحرب واختاروا غيره، والرئيس الفرنسي ديغول استنقذ فرنسا من الجزائر الثائرة، وبأقل الخسائر الممكنة، وأبطل التهديدات الخطيرة لوحدة واستقرار بلاده، لكنه لم يجد في نفسه القدرة على الاستمرار بعد انتفاضة الطلاب، أما المالكي فيرى نفسه الوحيد القادر على إدارة العملية السياسية في هذا الظرف الحرج، وهو لم يخف تمسكه بالسلطة التنفيذية، وسوق ذلك للشيعة بأن وجوده في منصب رئاسة الوزراء الضمان الوحيد لبقاء هذه السلطة بيد الشيعة، وأن غيره سيفرط بها، وبالنتيجة ستضيع أهم المكاسب التي حصل عليها الشيعة بعد الاحتلال.

من بعد المالكي سيأخذ الطوفان شيعة العراق افتراض ساذج جداً، وغير جدير بالنقاش، لأنه ينطوي على إهانة عظمى لهذا المكون الرئيسي في العراق، كما لا يؤيد سجل المالكي الافتراض القائل بجدارته لتسنم هذا المنصب، ويمكن الاستدلال على ذلك من اجراء تقييم مبسط وسريع لهذا الأداء وباعتماد عدد من مؤشرات الأداء وكما يلي: الأمن، وحدة الأراضي العراقية، التنمية، تحسين الخدمات، معالجة البطالة والفقر، منع عودة البعثيين، العلاقات الخارجية، والسمات القيادية، وباستعمال مقياس تقييمي متدرج كما يلي: ممتاز، جيد جداً، وسط، ضعيف، وضعيف جداً.

نبدأ بالأمن، وفي اليوم التالي لوقوع عشرات التفجيرات الإرهابية، والتي راح ضحيتها عشرات الشهداء والجرحى يصعب التحدث عن أي انجاز جدير بالذكر لحكومة المالكي في المجال الأمني، ومع الاقرار بدور الانقسامات السياسية والتآمر الخارجي في تأجيج العمليات الإرهابية وزعزعة الأمن إلا إنها لا تبرر هذا الفشل المزمن لحكومة المالكي في معالجة فقدان الأمن في العراق، وما يسببه من توترات وانقسامات عميقة داخل المجتمع العراقي وتعطيل للتنمية، لذا لا تستحق حكومة المالكي تقييماً غير (ضعيف جداً) إن لم يكن أقل من ذلك على هذا المعيار.

لا يزال العراق موحداً، رسمياً وشكلياً على الأقل، فالأكراد لم يعلنوا انفصالهم عن العراق بعد، لأن الظروف غير مؤاتية تماماً، ولكن اقليمهم شبه مستقل، بل هو كما وصفته في مقالة سابقة دولة بالفعل لا بحكم القانون الدولي، أو هو دولة ضمن دولة، والإقليم الكردي مستمر في قضمه لسلطة المركز وأراضي العراق، أما سنة العراق فهم يخيرون الشيعة بين أمرين، أما أن يسلموا لهم منصب رئاسة الوزراء وإلا سيحذون حذو الأكراد، والأغرب ان هنالك من الشيعة من يريد تكوين إقليم خاص بهم، ويتبين لنا اليوم مدى هشاشة العراق الموحد في الجدل الدائر حول النشيد الوطني العراقي، لكل هذه الأسباب فإن أداء المالكي في الحفاظ على وحدة العراق هو ما بين (ضعيف إلى ضعيف جداً).

لو نشط الاقتصاد لخبت السياسة مقولة أرددها في مناسبة وغير مناسبة، وتنطبق تماماً على الوضع العراقي، وحكومة المالكي تسبح بالأموال، 100 مليار دولار في العام، وهي من أكبر الميزانيات الحكومية عالمياً، ولا يتفوق عليها سوى الدول المتقدمة اقتصادياً ودول أوروبا وكوريا الجنوبية والهند وبعض دول الخليج ( أي هي ضمن العشرين بالمائة الأوائل في العالم)، ولكن لا نجد لهذه الميزانيات الضخمة تأثيراً ملموساً على الاقتصاد العراقي وحياة المواطنين، فلا الزراعة مزدهرة ولا أعيدت الحياة للصناعة، كما تؤكد روايات من مصادر برلمانية وغير حكومية كثرة حالات اختلاس وهدر المال العام، وهي كلها مؤشرات على فشل حكومة المالكي في مجال الاقتصاد، فهل يستحق تقييماً أفضل من ضعيف أو ضعيف جداً؟

وفي الخدمات تحدث العراقيون من غير حرج، كلهم متفقون على تدني مستوى الخدمات، وأي تحسن طرأ مؤخراً غير كاف ومتأخر جداً، ولا عذر للمالكي ووزراءه في ذلك، ولو أعطيت للمالكي أكثر من (ضعيف جداً) على هذا المؤشر لظن الناس بأني من أنصاره.

معالجة البطالة والفقر موضوع اقتصادي واجتماعي، وما زالت البطالة في العراق عند مستوى مرتفع عالمياً، كذلك الفقر، وكما بينت في مقارنة بين العراق ومصر، منشورة مؤخراً، وأفضل ما قدمته حكومة المالكي لعلاج هاتين المشكلتين التوظيف الحكومي، حتى تضخمت الوزارات والقوات المسلحة والأجهزة الأمنية، ولكنها كلها تعمل بمستويات متدنية من المهارة والكفاءة والأداء، ومن الواضح أن هذه الحكومة لا تمتلك رؤية واضحة للتعامل مع هذه التحديات الكبرى وغيرها، كمثل الذي يعالج الجروح الغائرة بأشرطة لاصقة، والدرجة التي تستحقها حكومة المالكي في هذا المجال لونها أحمر، وهي دون مستوى النجاح والمعدل الدولي العام بكثير.

سيسجل التاريخ لحكومة المالكي بأنها أعادت البعثيين إلى مناصبهم ووظائفهم ومنحتهم الامتيازات التي حرمت عليهم من قبل جزاءاً وفاقاً على دورهم التخريبي في العراق على مدى ثلاثة عقود، وهؤلاء البعثيون لا يخفون توقهم لإعادة احياء نظامهم البائد، من خلال تخريب المؤسسات التي أعيدوا لها من الداخل وبالتعاون والتنسيق مع رفاقهم من الإرهابيين، ادخلوا على موقع الحركة الشعبية لاجتثاث البعث وشاركوا في استفتاء حول المسؤول الأول عن تغلغل البعثيين في أجهزة الدولة وستجدون بأن أكثر من نصف المجيبين (53%) يتهمون المالكي بذلك، ويصاب المواطن العراقي العادي مثلي بالذهول عندما يقرأ أو يسمع بأن فلاناً العضو في كتلة المالكي بعثي سابق، وعندما حاولت الحصول على نسخة من ملفي الوظيفي لأعرف وللعلم فقط المتسببين بحرماني من جواز سفري العراقي وحتى اليوم وشقاء ثلاثة عقود اصطدمت بعقبات كأداء وعدم اكتراث من قبل مكتب المالكي، ويبدو بأن حسابات المصالح السياسية تطغى على المباديء ومصلحة العراق في إدارة المالكي لهذا الملف، لذا ومن دون تحيز شخصي لا يستحق المالكي سوى الصفر على هذا المؤشر.

للعراق علاقات خارجية مع بعض الدول، وعلى رأسها أكبر عدو للشيعة اليوم، وهي حكومة الولايات المتحدة الأمريكية، التي تهدد شيعة إيران بالحرب لرفضهم الرضوخ لهيمنتها، وتحاول إفناء شيعة لبنان لأنهم قاوموا الاحتلال الصهيوني المجرم، وتصطف مع حكومات الخليج الطائفية المضطهدة للشيعة، أما علاقات المالكي بإيران فهي مصلحية بحتة، وفي الوقت ذاته موقف العراق ضعيف جداً تجاه تركيا التي تتدخل في شؤونه الداخلية وتتآمر على استقراره وتستهتر بسيادته وتحرمه من حقوقه المائية، وهو يستجدي رضا دول الخليج والأردن وغيرها من الدول المنضوية تحت المحور الأمريكي المعادي للشيعة والذي يسعى لخلق صراع طائفي من خلال تأليب السنة على الشيعة، وإذا كانت المواقف المعلنة لنائب السفير العراقي في الرياض نموذجاً للأداء الدبلوماسي العراقي في ظل المالكي فلا غرابة أن تكون علاقات العراق الخارجية في أدنى مستوى وغير قادرة على ضمان مصالحه الحيوية، أما خروج العراق من البند السابع فقد جاء متأخراً جداً، وفي أغلب الظن لو دخل المالكي ووزير خارجيته وكبار موظفي الوزارة ودبلوماسيها اختباراً في مادة العلاقات الخارجية لسقط الجميع.

امتلك عبد الناصر كاريزما القيادة لكنه فشل في اختبارات وتحديات القيادة، واليوم قلة يذكرونه بخير، وفي تقديري لا توجد ذرة من الكاريزما في شخصية المالكي، ولا أحد ينكر بأن له أنصار ومعجبين كثر، لكن الكاريزما لا تقاس بعدد الأتباع فقط، وإلا فلا بد أن نعترف بذلك للطغاة مثل صدام وهتلر وستالين، ربما يرى بعض أنصار المالكي فيه من الخصائل الكارزمية الحميدة ما لا أراه شخصياً، ولكني أرجح بأن الكثيرين من أتباعه منبهرون بسلطته فقط وتشبثه بالمنصب مهما تطلب ذلك من تنازلات ومساومات واخفاء لملفات أمنية، وبانتظار أن نقرأ ما سيكتبه شركاء المالكي في العملية السياسية من كتب ومذكرات عن "كارزميته" المزعومة أفضل تأجيل الحكم على هذا المؤشر وأكتفي باقتباس ما قرأته مؤخراً في مقال لواحد من أشد المتحمسين للمالكي والاحتلال الأمريكي، منشور في منتدى عراق القانون مؤخراً، إذ اعتبر استواء المالكي على منصب رئاسة الوزراء تجسيداً لمبدأ "البقاء للأصلح"، وهو بالمناسبة مبدأ مخالف في بعض تطبيقاته للغاية العظمى للإسلام وهي إحياء النفس البشرية بالمطلق، فعلق عليه أحدهم بذكاء: في غياب النزاهة وحضور المحاصصة يكون البقاء للإنتهازي لا الأصلح.

اخلص من هذا التقييم العاجل بأن أداء المالكي في رئاسة الوزراء ضعيف وضعيف جداً، وهي نتيجة قد تكون مؤلمة بالنسبة لبعض الشيعة إذ قد يرون فيها انتقاصاً من سمعتهم كطائفة، مما سيعرضهم لتشفي أعدائهم الطائفيين، داخل وخارج العراق، لكن ذلك أهون الشرين وأقلهما مرارة، وإلا فنحن جميعاً لا نكترث لدماء ضحايا الأمس واليوم وعشرات الألاف الذين سبقوهم وفشل المالكي في حمايتهم من الإرهاب.