صمت المثقف وسلبيّته ... لؤي حمزة عباس
م أجد صفة أنسب من ( التلفيق ) لوصف معظم مهرجانات الثقافة العراقية منذ العام 2003 حتى اليوم، وهو تلفيق أصبح أكثر من بيّن، وتجلّت أهدافه لتكون أشدَّ وضوحاً من الثقافة نفسها، وإن كان مثقفون قد سبقوني في الحديث عن ضعف مهرجان بعينه، وبؤس آخر، وفوضى ثالث، حتى ما لا ينتهي من الصفات، فأفكّر بإطار جامع يوحّد الصفات ويؤآخي طعنات المهرجانات التي توجّه للثقافة العراقيّة طعنة بعد أخرى، وليكن التلفيق إطاراً جامعاً، وصفة عامة موحِّدة طالما أتحفتنا اللغة العربية بمعاني متعددة للكلمة تتفق جميعها في كونها طلب أمر بغير إدراكه، وتلفيق الحديث زخرفته وتمويهه بالباطل، وأن نصف خبراً بالملفّق فإننا نرفع عنه الصحة والوثوق. مهرجانات الثقافة العراقية اليوم، ولأقل معظمها، وجه مستحكم من وجوه تردّي النشاط الثقافي، وتراجع قيمته، وغياب قدرته على انتاج ممارسة حضارية، وبهدي لغوي، لا تُدرك معظم المهرجانات من الثقافة شأناً، في حال اتفقنا أنها تطلب شأناً ثقافياً، وهي تلفيق بغير زخرفة، فالزخرفة فن محكم رفيع، وزخرفة مهرجاناتنا كذبُ قولٍ، لا يتعدى تحسينَ الكلام زوراً، والباطلُ فيها معلنٌ وصريح.
إن مهرجاناً ثقافياً لا يُدرك من الثقافة شيئاً ينقلب إلى ضده ليصبح ببساطة مهرجاناً لا ثقافياً، يهدم من الثقافة وعمرانها أكثر مما يبني ويُقيم، ويكون بدوره تكريساً لظواهر التخلّف والانحدار في الحياة العراقيّة، من تابعيّة ومجانيّة وارتجال، تصحبها جميعاً وتتوجّها انتهازية غالبة. إن ظواهر مثل هذه لن تدفع أصحابها للتفكير المنظّم، والخطوات المدروسة الواضحة، ومواجهة النفس للنظر في العثرات والأخطاء من أجل الوصول إلى صورة مثلى للحدث الثقافي، إنما ستدعوهم على الدوام للإنشغال بالعَرَض على حساب الجوهر، وتتويج العابر المرتبك على حساب الشاخص الدقيق، والانهمام بالسطوح السهلة ذات الضحالة الظاهرة على حساب الاعماق، وذلك ما يؤكده غياب الحصيلة المعنويّة عن المهرجانات، على الرغم من كثرتها، وعلى الرغم من تراكم دورات بعضها بالنظر للطول النسبي لأعمارها، وحصيلة المهرجان الثقافي في شقيه النقدي والابداعي، لمن يتفضل بالسؤال، نظرٌ عميقٌ مشترك بما يُقترح من قضايا ومشكلات، وتتويجٌ لممارسة ابداعية تُعدُّ إضافة في مضمارها، وهو ما غاب ويغيب عن معظم مهرجاناتنا، فالنظر النقدي الفاحص والمتأني تحوّل في مجمله إلى عجالة عابثة حضرت فيها المقالة الركيكة المربكة، التي يُنجز كثير منها وقت المهرجان، وغابت الدراسة الجادة التي يمكن أن تُسهم بتوجيه النظر توجيهاً منهجياً سليماً لما تتصدى لمعالجته من موضوعات، وهي نتيجة طبيعية لمشاركة أسماء لا تتغيّر في كل مهرجان حتى تحوّلت الممارسة الثقافيّة نفسها إلى مجاهرة مجانيّة لا حدود لها، فما معنى أن يتوالى على منبر القراءة الشعريّة، في كثير من المهرجانات التي تُناط دوراتها بأسماء مبدعين عراقيين، ومنها مهرجانات تسحب وراءها تأريخاً ليس بالهيّن من الانجاز الابداعي والنقدي، سيلٌ من الشعراء، منهم من يكتب للمرّة الأولى، ومنهم من تُصحح قصيدته تحت منبر القراءة، ومنهم من يقرأ قصيدته نفسها للمرّة العشرين، فالمهرجانات كثيرة والشعر قليل!
ذلك حال يتكرر ويُستعاد لسببين بسيطين ومفهومين هما غياب الهدف الذي يحكم الأداء الثقافي ويوجّه عمل مؤسساته الرسميّة منها وشبه الرسميّة، وتردّي الشعور بالمسؤولية الذي جعل من مثقفي المهرجانات، وهو توصيف تُحدّد من خلاله فئة معلومة ومسمّاة، كياناتٍ لا تُحسن التفكير و الانصات، وما غياب التفكير إلا سبب رئيس في الابقاء على تابعيّة الكثير من المهرجانات ومثقفيها للراهن السياسي، وتراجع أصحابها أمام الجهة الممولة وهي النقطة الأخطر في موضوعنا.
مهرجاناتنا الثقافية اليوم فرصة للاستعراض من قبل السياسي، وموسم للسفر المجاني وتزجية الوقت من قبل كثير من المدعوين، على حساب الثقافة وفعالياتها وأدوارها، وهو ما يجعل كثيراً من المشاركين في مهرجانات عربيّة و كرديّة على السواء، يُراد لها أن تكون عالميّة، يقبلون أن تُفتتح بخطابات دوغمائية لا تختلف كثيراً عن خطابات طارق عزيز في دورات المربد الأخيرة قبل السقوط، وهي ما زالت حاضرة في الذاكرة العراقيّة، لم يمرّ وقت طويل لتُنسى. ولمن يسيؤه مثل هذا التصوّر التفضل بمراجعة التغطيات الصحفية المصاحبة لمعظم المهرجانات الحاليّة، لا سيما ما يثبّت أحاديث السياسيين وادعاءاتهم بما تتضمنه من رسائل ليعرف، بحق، معنى أن يكون المهرجان الثقافي مناسبة لإستعراض السياسي ولتابعيّة المثقف وصمته.
تقدّم مهرجاناتنا اليوم صورة صريحة لعجز الآلة الثقافية على تسويغ وجودها، مثلما تقدّم صورة أكثر صراحة لقبول المثقف العراقي أن يكون مادة لمواصلة خلل الحياة السياسية وزيف مؤسساتها، ليخسر، بذلك، أهم أدواره ويتخلى عن ضرورته في أن يكون صوت الفرد القادر على مراقبة محن وجودنا. ذلك ما يمكن أن تصل إليه أية قراءة لمهرجان ثقافي يُقام على حافة توتر سياسي أو صراع بين جبهتين أو طائفتين، وما أكثر توترات المشهد السياسي في العراق، وما أّشدّ صراعاته وما يترتب عليها من خسائر، ومن ذلك ما نعيشه اليوم من خلاف وصل حد التوتر العسكري بين جبهتي الاقليم الكردي والمركز وقد أقيم على حافته مهرجان كلاويز من 15ـ 18/ 11 تحت عنوان ( لنجعل من السليمانية عاصمة للثقافة في اقليم كردستان) تزامناً مع الذكرى 228 لتأسيس المدينة، بحضور أدبي وثقافي نخبوي من مختلف قارات العالم، بحسب تعبير وسائل الاعلام. في افتتاح المهرجان ألقى مسؤولون أكراد عدداً من الكلمات تنوّعت بين الحديث عن المدينة تأريخاً وثقافة، والحديث عن الراهن السياسي، ومنه موضوع التوتر كما ورد في كلمة الملا بختيار مسؤول الهيئة العاملة للمكتب السياسي للاتحاد الوطني الكردستاني والمشرف على فعاليات المهرجان، موجهاً رسائل متعددة لسياسيي المركز، من أوضحها دعوتهم لعدم الحديث (مع إقليم كردستان بلغة المدافع والدبابات)، مؤكداً أن (عليهم ألا يفكروا بالحرب لأننا أصحاب تجربة وهم لم يشهدوا عهود المقاومة ولم يخوضوا الحرب من قبل).
ولسنا هنا بصدد مناقشة خلل تعاطي السياسي العراقي الذي أوصل قضية وطنية لمرحلة الاحتقان، وهو خلل بات أكثر من واضح لتكراره في قضايا عدة وطنية واقليمية ودولية، ولكننا بصدد النظر في قضية أن تكون المهرجانات الثقافية مناسبة لتمرير الرسائل السلبية وما يترتب عليها من مواقف لن ينجو من تبعاتها عراقي، عربي أو كردي، ابن مركز أو اقليم، من قاطني السليمانية أو البصرة، والغريب في الأمر أن تمرَّ مثل هذه الرسائل عبر الوسط الثقافي من دون أدنى اعتراض أو إشارة أو تنويه، بما يؤكد سلبية الدور الذي لعبه هذا الوسط بمهرجاناته ومؤتمراته وملتقياته وندواته ومسابقاته منذ ثمانينيات القرن الماضي حتى السقوط وما زال يواصل لعبه منذ السقوط حتى اليوم بامتياز، وهي أنشطة لم يكن لها سوى هدف واحد هو دعم السلطة ومباركة قراراتها، في مثل هذه الحالة سيكون لصمت المثقف وسلبيته ثمن مضاعف ليس هناك من يعرف فداحته على نحو دقيق مثل العراقيين وقد ذاقوا مرارته عقوداً طويلة ومازالوا يذوقون.