كم أنا حسّاسٌ من العيارةِ وتجلياتها.. فهي تصيبني بالاشمئزازِ إن جاءتْ من عَيّارٍ ذكرٍ. أما إن كانت من أنثى فإني أبيحُ لنفسي عدَّ عيارتها شكلاً متقدّماً من عهر مكبوت. لقد وطّنتُ نفسي على هذا الاكتشافِ منذُ زمنٍ طويلٍ. يجدرُ بي أولاً تعيينُ معنىً للعيارةِ. أنا أعرفُ أنكم تعرفونها، لكني أشكُّ في قدرتكم على وضعِ تعريفٍ محدّدٍ قاطعٍ لها، ولكم الحقُّ في هذا، فالدلالاتُ التي يمكنُ الوقوفُ عندها كثيرةٌ ومتداخلةٌ مع اصطلاحاتٍ أخرى من قبيلِ "التفييك" و"الهمبلة" و"التمقلج"، ومع هذا فهي أشملُ وأكبرُ من هذه المفاهيم. بمعنى أن التفييك والهمبلة والتمقلج من بعضِ ما في العيارةِ من دلالاتٍ غزيرةٍ. العيارةُ يا أخوتي "والله حيرة، إنها على طرفِ عقلي ومخيلتي، إلا أني أجدُ صعوبةً بالغةً في تطويعِ اللغةِ لتعيينها". إنها، باختصارٍ، ادّعاءُ ما ليس فيك، أو تهويله ليغدو شاذّاً في كبره وعدمِ مناسبته للموقفِ. إنه الخوف من برابيج البريج على حدِّ قول أمهاتنا المشمئزات منها. سلّمتْ إحدى قريباتي على عمّتي، المرأةِ العجوزِ التي أمضت الشطرَ الأكبرَ من حياتها في الفلاحةِ في قرى العدلِ في محافظةِ ميسان. احتضنتَها بشغفٍ وقبّلتها بقوّةٍ، ثم جلستْ تحدّثها وتسألها بحميميّةٍ طاغيةٍ. غير أنها سرعان ما انصرفتْ عنها لتنشغلَ بتفاصيلَ تافهةٍ، بحيث بدتْ حميميتُها وشغفُها بعمّتي أشبه بعودِ ثقابٍ توهّجَ فجأةً ليخمدَ فجأةً. وحين غادرتْ قالتْ عمتي:" المره هاي والله عَيّارة". كانت هذه المحطّةُ الأولى التي دعتني للتوقفِ عند أشكالٍ أخرى لا حصرَ لها للعيارةِ. راقبتُ، مرّة، جمعاً من نساءٍ متشحاتٍ بالسوادِ. كنَّ بصددِ تعزيّةٍ في ميّت. وكنَّ يتضاحكن وقد غلبتْ عليهن حالةٌ من الزهو، ربما وفّرته هيمنةُ العقلِ الجمعيّ لديهن.. ما لفتَ انتباهي عيارةُ "نعيِّم" المخنثِ الأسود الذي تولّى قيادتهن بملابسه النسائيّة السوداءِ. كان يتقدّمهن بمسافةِ أمتار، وحين استبطاهن التفتَ إليهن وقال، بحركاتٍ خنثويّةٍ طاغيةٍ وصوتٍ لا يخلو من غنجٍ مشوبٍ بغضبٍ مدّعى:" همّن رجليجن منيوكات!!". كان اصطناعُ الغضبِ مفضوحاً بطريقةٍ قرّبتني جداً من مفهوم العيارة الكبير. أما عيارةُ حشدِ النساءِ فقد تمثّلَ في وضعِ كلِّ واحدةٍ منهم شيلتها على فمها لتمنعَ ضحكةً، مع أن ما يفصلهن عن الجادر انعطافةُ زقاقٍ فقط.سرتُ مع حشدِ النساءِ مراقباً.. أدهشني الشكلُ الآخر للعيارة، فقد انقلبت الملامحُ من الضحكِ المكتومِ المحتقنِ إلى الحزنِ السريعِ، فقد اعتصرت النسوةُ وجوههن بجهدٍ عظيمٍ بحثاً عن ملمحِ حزنٍ ودمعٍ طارئين. وهكذا لذّتْ لي متابعةُ العيارةِ لدى الناس.. كنتُ استمتعُ في اكتشافِ أنماطٍ جديدةٍ لها. أضحكُ كثيراً، في سرّي، حين أجدني عيّاراً بطريقةٍ ما.. وما ضحكي إلاّ الخطوةُ الأولى لمجانبةِ العيارةِ والكفِّ عنها لأعودَ إلى وجودي الأصيلِ المكتئب. قالتْ لي عمّتي أنّ السببَ في كثرةِ عيارةِ الناسِ هذه الأيام يكمنُ في اختفاءِ البرغوثِ.. وحين جلجتْ ضحكتي اثر جملتها الصادمةِ قالت لي:" على كيفك.. لا تصير عيّار!، البرغوثُ، والحديث لعمّتي، كان أساسيّاً في حياتنا على العدلِ ورْفيعة والمجر.. وحين قدِمَ الناسُ إلى بغداد ومدنٍ أخرى رافقهم البرغوثُ مدةً قليلةً ليختفي بعدها تماماً هرباً من المراوحِ والصابونِ والمصابيح والتايت. لم يكن الناسُ يشبعون نوماً من لسعِ البرغوثِ وعبثِه بأضلاعهم، لذا تراهم يترفّعون عن العيارة نهاراً لأن شحّةَ النومِ تُفقدهم مزاجهم الرائق.. فالروقانُ أسُ العيارة وأصلُها، فأنتَ لن تجدَ حزيناً عيّاراً. وهناك سببٌ آخر لغطرسةِ العيارةِ، والحديثُ ما زال لعمّتي، هو غيابُ الفقرِ. هل تعلمُ أن الناسَ في رفيعة والعدل وأنهاراً أخرى كثيرةً لم يكونوا يعرفون المرق؟ هل تصدّقُ أن عركةً قويّةً نشبتْ بين "سلفين" على شيف رقّي حملته لنا مياهُ رفيعة. كان غذاؤنا الفوحَ والكَاطَ والحندكَوك وما تجودُ به ضفافُ الأنهارِ من نباتاتٍ مجانيّةٍ. انظرْ إلى غذاءِ الناسِ الآن.. البطرُ يقودُ إلى العيارةِ.. آملُ أن تكونَ صورةُ العيارةِ قد توضّحتْ، أما الرتوشُ فبإمكانكم وضعها حسبَ رغبتكم في الفهمِ. ما زالَ الشكُّ ينتابني في قدرتي على إفهامكم، لذا دعوني أسترسلُ. والعيارةُ متصلةٌ باللواكَةِ. فمطابقةُ محدّداتِ العيارةِ على حيثياتِ اللواكَةِ وتفصيلاتها تنبئنا بأنها- اللواكَة ـ أكثرُ الأشكالِ وضوحاً وشيوعاً للعيارةِ، لذا لن أضيفَ شيئاً مهمّا إن خضتُ فيها.هل راقبتم هيفاءَ وهبي وهي تغنّي؟ هل انتبهتم إلى طريقةِ كاظم الساهر في التنظيرِ لغنائه؟ هل تأمّلتم طريقةَ دنيا المصريّة في الرقص؟ ثمةَ الكثيرُ مما ينوفُ عن الغناءِ والتنظيرِ والرقصِ. حين أهيئ مُستقبلاتي لتلقي الإبداعِ لدى هؤلاء أجدُ أشياءً كثيرةً زائدةً، ليست بي أو بغيري حاجةٌ إليها. هذا التعمّدُ وتلك القصديّةُ غير المبرّرةِ في الزيادةِ هي العيارةُ. كي لا أكون عيّاراً كبيراً في نظركم عليّ الآن أن أختزلَ لكم خوفي من شيوعِ عيارتنا مع ما بنا من أسبابٍ لتجنبها، وأظنُّ أن دمنا المسفوك بالطريقةِ المجانيّةِ، التي تعرفونها، أكثرها شيوعاً. إنّ العيارةَ دليلٌ كبيرٌ على الإفلاسِ وغيابِ الإبداعِ والمنجزِ المهمِّ، ومؤشرٌ على التفاهةِ وقصورِ وتدني أهداف الحياة الكبيرة وتسطّحها. ما رأيكم بتوقّفِ الدوامِ في إحدى القاعاتِ الدراسيّةِ في إحدى الكليّاتِ لأن الطالباتِ "الرقيقات جداً" رأين أبو بريص على واحدٍ من جدرانها؟ ما رأيكم بصرخةٍ وارتعاشة جسدٍ وأيادٍ وُضعتْ على الصدرِ كي لا يفرَّ القلبُ من بين الضلوعِ لأنّ عصفوراً طارَ من بين أقدامِ امرأةٍ تلبسُ جينزاً ضيّقاً جداً، تحيّركَ طريقةُ لبسه وخلعه؟ ما رأيكم بامرأةٍ "مسكينةٍ" انحرفَ مزاجُها انحرافاً خطيراً وقضتْ يوماً بائساً، على حدِّ قولها، لأنها لم تجدْ ما اعتادتْ عليه من ورقِ الكلينكس المعطّر برائحةِ الليمونِ البريّ؟ ما رأيكم بموظفةٍ طلبتْ إجازةً عارضة من دائرتها لتعودَ إلى البيتِ حزينةً لأن طويرني ذرقَ على قميصها الناصعِ البياضِ؟ ولأن كلَّ حديثٍ في العراقِ ينتهي، حتماً، بالدينِ أو بالسياسةِ أو بكليهما مهما كان نوعُه، لذا أجدني مضطراً إلى عدمِ مخالفةِ سنّتنا، فأقولُ: قد تكون تمظهراتُ العيارةِ، التي سردتُها، محدودةَ التأثير إلاّ في نفوسِ ذوي النزعةِ الكئيبةِ من أمثالي، لكنّ الخوفَ، كلَّ الخوفِ من عيارةِ المتدينين والسياسيين وصناعِ القرارِ، فالبعضُ ممن تزلّفوا لله بطريقتهم، تفيضُ أعينهم بالدمعِ وهم يتخيّلون جسدَ الإمامِ الحسينِ سلامُ الله عليه صريعاً على رملِ كربلاء، لكنهم يعرفون كيف يقطّبون وجوههم ويشحنونها بارتعاشاتِ وخلجاتِ الغضبِ حين يطأهم الحقُّ. وآخر كان يقذعُ في وجوهِ خصومِه السياسيين بأكثرِ الألفاظِ ابتذالاً وسوقيّة، يبسطُ أساريرَ وجهِه ويشرحُ صدرَه ويرخي عينيه ما أن يلمحُ كاميراتِ التوثيقِ تدنو منه، فيرقُّ صوتُه وتتهذّبُ لغتُه في الوقتِ الذي يرفعُ الإصبعَ الوسطى من يده مستقيمةً مشدودةً إلى الأعلى تحت الطاولةِ، تتقاطعُ في رأسه المزحومِ أبداً صورتان: صورةً لهيفاء وهبي وهي تضاجع الهواءَ في "بوس الواوة"، وشدّةُ شبقه بها تتعاظمُ، وأخرى وهو يتأملُ نفسَه يرتدي دشداشةً ونعالاً خفيفاً قاصداً ضريحَ الحسينِ عليه السلامُ.إخوتي الأحبّة، ارفدوا الموضوعَ بالمزيد من صورِ وأشكالِ عيارتنا، فلعلّ في حرصنا على شيوعِ معرفتنا بها ما يدنينا من وجودٍ أصيلٍ حقيقيّ نشمُّ فيه رائحةَ عرقنا ونحن ننجزُ شيئاً مهمّاً.
|