* رغم مرور أربعة عشر قرناً إلا سبع سنين لا زال المؤرخون المتأثرون من قريب أو بعيد بتاريخ بدعايات وروايات بني أمية يظلمون الامام الحسن بن علي أمير المؤمنين عليهما السلام بخصوص "معاهدة الصلح" التي قامت بينه (ع) وبين الطليق أبن الطلقاء "معاوية بن أبي سفيان" في 26 ربيع الأول سنة 41 للهجرة حقناً لدماء المسلمين ودفعاً للفرقة والنفاق والتشتت والانقسام وإندحار الرسالة النبوية الشريفة . ففي تلك الظروف العصيبة التي كانت تمر بها الأمة بعد اغتيال أمير المؤمنين الامام علي بن أبي طالب عليه السلام بسيف القاسطين والمارقين والمنافقين والخارجين عن دين الله سبحانه وتعالى، والفوضى التي عمت بسبب الاعلام الأموي المسموم والضال في الكوفة مما دفع بالكثير من أصحاب وأعداء الامام الحسن بن علي (ع) التخطيط والعمل على اغتياله إرضاءً لأبن هند آكلة الأكباد وبث الدعايات المسمومة والمغرضة مما أدى الى انقلاب الواقع والحقيقة وانتصار الشر على الخير كما هو مألوف لدى عرب الجاهلية والقبلية على مر السنين والقرون . لقد أدرك الامام الحسن (ع) أبعاد المؤامرة وكشف الجواسيس، وأرسل الى "معاوية" يدعوه الى التخلّي عن انشقاقه وعصيانه ضد الخلافة الألهية التي نص وعهد بها الرسول (ص) وهو الذي "وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى.. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى" 3و4 سورة النجم . فأرسل "معاوية" رسالة جوابية يرفض فيها مبايعة الامام الحسن (ع)،
وتبادلت الرسائل بين الامام (ع) و"أبن هند" وتصاعد الموقف المتأزّم بينهما حتى وصل الى حالة إعلان الحرب. الأمر الذي دفع بالامام الحسن (ع) ورغم كرهه لذلك بأن يسير بجيش كبير حتى نزل في موضع متقدم عرف ب”النخيلة” فنظم الجيش ورسم الخطط لقادة الفرق؛ ومن هناك أرسل طليعة عسكرية في مقدمة الجيش على رأسها "عبيد الله بن العباس" و"قيس بن سعد بن عبادة" كمساعد له؛ لكن مجريات الأمور والأحداث جرت خلاف المتوقع؛ وفوجىء الامام المجتبى (ع) بالمواقف المتخاذلة من انصاره وقادته والمقربين له، منها: 1- خيانة قائد الجيش "عبيد الله بن العباس" الذي التحق بركب "معاوية" لقاء رشوة تلقاها منه رغم أن الأخير كان قد قتل أثنين من أبنائه. 2- خيانة زعماء القبائل في الكوفة الذين أغدق عليهم معاوية الأموال الوفيرة فأعلنوا له الولاء والطاعة وعاهدوه على تسليم الإمام الحسن (ع) له. 3- قوّة جيش العدو في مقابل ضعف معنويات جيش الامام (ع) الذي كانت تستبد به المصالح المتضاربة. 4- الدعايات والاشاعات التي أخذت مأخذاً عظيماً في بلبلة وتشويش ذهنية المجتمع العراقي. وأمام هذا الواقع الممزّق وجد الامام الحسن بن علي (ع) أن المصلحة العليا تقتضي عقد " معاهدة صلح" مع طاغية محتال "معاوية" حقناً للدماء وحفظاً لمصالح المسلمين والدين الاسلامي الحنيف. فوقع "معاوية" على "معاهدة الصلح" الذي وضع الامام الحسن (ع) شروطه بغية أن يحافظ على شيعة ومحبي وأتباع أهل البيت (ع) وترك المسلمين يكتشفون ماهية "معاوية" الحقيقية بأنفسهم ليتسنى الامام الحسين (ع) فيما بعد كشف الغطاء عن بني أمية وتقويض دعائم ملكهم. فأقبل "عبد الله بن سامر" الذي أرسله معاوية الى الامام الحسن (ع) حاملاً تلك الورقة البيضاء المذيّلة بالإمضاء وإعلان القبول بكل شرط يشترطه الامام (ع) وتمّ الإتفاق على وقف القتال حيث نصت "وثيقة الصلح" بما يلي: بسم الله الرحمن الرحيم " هذا ما صالح عليه الحسن بن علي بن أبي طالب معاوية بن أبي سفيان، صالحه على أن يسلّم اليه ولاية المسلمين على أن يعمل فيهم بكتاب الله وسنّة رسول الله، وليس لمعاوية أن يعهد الى احد من بعده عهداً، على أنّ الناس آمنون حيث كانوا من ارض الله تعالى في شامهم ويمنهم وعراقهم وحجازهم. وعلى أنّ أصحاب علي وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم حيث كانوا، وعلى معاوية بذلك عهد الله وميثاقه. وعلى أن لا يبغي للحسن بن علي ولا لاخيه الحسين ولا لاحد من اهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غائلة سوء سرّاً وجهراً، ولا يخيف أحداً في أفق من الآفاق. شهد عليه بذلك فلان وفلان ، وكفى بالله شهيداً "( المدائني في شرح النهج ج 4 ص 8 ؛وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص 194؛وابن كثير ج 8 ص 41؛ والاصابة ج 2 ص 12 و13؛ وابن قتيبة ص 150؛ وابن أبي الحديد ج 4 ص 15؛ والدينوري ص 200). لقد کانت مسؤولية الامام الحسن عليه السلام كانت مهمة وصعبة جداً، أصعب بکثیر من مسؤولية الامام الحسين عليه السلام، وذلك لأن مسؤولية الإعداد أصعب من تفجير النهضة والقيام المسلح، لأن الشخص الذي يريد بناء وتربية جيل على المفاهيم الصحيحة، فمن دون شك وترديد لابد من أن يلاقي صعوبات عديدة، وربما يهان، كما أنه يحتاج الى برنامج منظم وزمان طويل ومخطط دقيق على المدى البعيد، والكوادر الصالحة والتقية والاحتياط من أجل المحافظة على هذا الجيل في حال الاعداد والبناء، وعوامل البقاء خلال عشرين أو ثلاثين سنة أو أكثر، وأخيراً فهو بحاجة للاستعداد الكامل لتحمل الكلمات الجارحة وأن يكون بعيداً عن كل مدح وثناء. وبدلاً من الوقوف الى جانب الامام المفروض طاعته استناداً للقرآن الكريم " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ " سورة النساء الآية 59، وبما قاله الرسول الأعظم (ص) "الحسن والحسين عليهما السلام إمامان قاما أو قعدا" والذي جاء في كتاب علل الشرائع ج1ص248باب 159 والمناقب لإبن شهر آشوب ودعائم الإسلام والإرشاد للمفيد والبحار وكفاية الأثر وغيرها من مصادر الحديث، فرموه ببغيهم واتهموه (ع) بأنه "مذل المؤمنين"!! مما جرح قلبه الشريف عليه السلام ليرد عليهم بقوله:- 1- أرى والله أنّ معاوية خير لي من هؤلاء يزعمون انّهم لي شيعة ، ابتغوا قتلي وانتهبوا ثقلي وأخذوا مالي (الاحتجاج : ج2 ، ص20). 2- والله لئن آخذ من معاوية عهداً أحقن به دمي وأؤمن به في أهلي خير من أن يقتلوني فيضيع أهل بيتي وأهلي ، والله لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوني إليه سلما ( المصدر السابق). 3- لولا ما أتيت لما ترك من شيعتنا على وجه الأرض أحد إلاّ قُتِل(علل الشرائع : ص211). 4- والله لئن أسالمه وأنا عزيز خير من أن يقتلني وأنا أسير أو يمنّ عليّ فيكون سنّة على بني هاشم آخر الدهر لمعاوية لا يزال يمنّ بها وعقبه على الحيّ منّا والميت(المصدر السابق). 5- والله ما سلّمت الأمر إليه إلاّ إنّي لم أجد أنصاراً ولو وجدت أنصاراً لقاتلته ليلي ونهاري حتى يحكم الله بيني وبينه (علل الشرائع ص12). 6- لكنّي أردتُ صلاحكم وكفّ بعضكم عن بعض » وقوله في جواب حجر بن عدي : « وما فعلتُ ما فعلتُ إلاّ إبقاء عليك والله كلُّ يوم في شأن» (شرح نهج البلاغة لأبن أبي الحديد : ج16 ، ص15). 7- ولكنّي خشيت أن يأتي يوم القيامة سبعون ألفاً أو ثمانون ألفاً تشخب أوداجهم دماً، كلهم يستعدي الله فيم هريق دمُه (المصدر السابق). 8- علّة مصالحتي لمعاوية علّة مصالحة رسول الله (ص) لبني ضمرة و... أولئك كفّار بالتنزيل ومعاوية وأصحابه كفروا بالتأويل(المصدر السابق).
|