امتلأت حياتنا بقيحهم وقيئهم


(1)

لا اعتقد أن أحدا كان يتصور، حتى في أسوأ الاحتمالات، أن تصلَ العمليةُ السياسية في العراق هذا المستوى من الانحدار والتردي الأخلاقي والثقافي، مع صمت مطبق عن هذا الواقع المرير، وإصرار على توسيع دائرته، من قبل السياسيين العراقيين أنفسهم.

أشك أن يكون احدٌ – قبل الآن- قد لَعِبَ مثلَ هذا الدور في السياسة العراقية، حتى في أوج فترات انحطاطها وتدهورها (هل يكفي كون قياداتُ حزب البعث الجاهلة، وشيوخُ عشائر صدام حسين أعضاءً في البرلمان العراقي، مثالا على ذلك؟، أم إننا بحاجةٍ إلى أن نُضيف أسماء أخرى، طه ياسين رمضان مثلا، أو حامد يوسف حمادي، أو عشرات الأميين الذين كانوا يحملون الصفةَ الرسمية للعراق، ويتحدثون باسمه، أينما حلّوا، وأينما نزلوا، في مواخير لندن، أو أحياء باريس القديمة).

هل كان هذا يجري تنكيلاً بنا، نحن العراقيين، قلباً وروحاً وانتماء وجذورا؟ وهل يشعر الآخرون أننا أكثر إخلاصاً لعراقيتنا؟ ألهذا يبصقونَ على أحلامنا، ويستبدلون صباحاتنا بزنزاناتٍ وكوابيس؟

ألأنَّ العراق كان قِبلتَنا؟ ألأنّا كنّا نُذبحُ على محرابهِ كلّ يوم؟، فيما كانوا يتصيّدون مساءات باريس، وملذّاتها. 

لا تُحصى المرات التي قايضوا بها كرامةَ العراق بابتذال عاهرة، واسم العراق، ومستقبل العراق، وامن العراق، و...، وكانوا قادرين وقادرين وقادرين.. 

لا يخلو مرقصٌ بيروتيّ من شذا نسائهم، أو بارٌ من عربداتهم ونزواتهم، فيما كنّا نتضور موتاً وألماً وانكساراتٍ بعدد أيامنا.

لم نكنْ نفكرُ بنصيبنا من الحياة، بما سُلِبَ منّا، وبما لم يُسلَبْ بعد. كانت لنا حياتُنا الخاصة، وكان لنا بؤسُنا الخاص، وكانت لعراقيتنا نَكهتُها الخاصة. كانوا يحسدوننا على ذلك، لكنّنا لم نغبطهم على شيٍّ قطّ، فقد كنّا نعرف مدى خِستهم وانحطاطهم وزَيغِ قلوبهم.

كان البريقُ فاضحاً آنذاك، وصار الآن أكثر زيفاً. لم يتغيرْ سوى اللّباس، الوجوه بلِحًى وبدون لِحًى، لا يهمُّ، كلُّها تَتقنع بقناعٍ واحد. السّحناتُ الصفراء، العيونُ المحمرّة، والملامحُ الشاحبة، تؤكدُ الحقيقةَ ذاتَها. حقيقةَ أننا نُسْتَلَبُ وطناً، ومصيرا، وحُلُماً، وهَجْساً بالانتماء.

 

(2)

عشراتٌ من السياسيين العراقيين، لم يستوعبوا إلى الآن، أنهم مَنْ يُقرّر مصيرَ بلدٍ وشعبٍ وتأريخٍ وحضارة. لعلّ امتهانَ الذات، والشعورَ بالزيف الفكري والروحي سببٌ جوهريٌ وراء ذلك. والى الآن لا يُجيد اغلبُهم سوى الكلمات الجوفاء بمناسبة وبدون مناسبة.

وزراء لا ندري من أين جِيءَ بهم، شغلُهم الشاغل هو كرسي الوزارة، وهالةُ المجد التي يحيطون بها أنفسهم. يتحدثون عن مشاريعَ وخططٍ وانجازات، عن وطنٍ جديد، وإنسانٍ جديد، عن حياةٍ كريمة، وربما عن آخرةٍ كريمة، ونعرفُ كم هم زائفون، والى أيّ مدًى امتلأت حياتُنا بقيحهم وقيئهم ولا إنسانيتهم.

أباطرةٌ، وقياصرةٌ، عفا عليهم الدهر. ديناصوراتٌ، حيتانٌ كبيرة، ومهرّجون.

سياساتُهم: تبادلُ تُهمٍ، مُهاترات، شتائم، كَذِبٌ وادعاءاتٌ، ضمائرُ تموت، وذممٌ تُشترى، لِحًى، جاكيتات أنيقة، قُرّاءٌ مجالسِ عزاء، ناعياتٌ، وَجَدْنَ ضالتَهُنّ في البرلمان، وَلاءاتٌ لأحزابٍ وحركاتٍ ومجالس بالية، شعاراتٌ تُرفع، إفلاسٌ فكري، عراقٌ يُباع، وأبناءٌ يُشرّدون.

 

(3)

هكذا، كان العراقُ يَتسربُ من بين أصابعنا، صارَ الآنَ، يُنتزَعُ من حَدقات أطفالنا.