الهيوا البصرية

 

كتبت في عمودي السابق عن بعض الملاحظات التي تجمعت عندي أثناء زيارتي للبصرة، وأريد أن اكتب اليوم عن المزيد مما أجده جديراً بالاهتمام ولا يتناسب مع تاريخ هذه المدينة العريق ولا مع تنوعها السكاني الجميل.
الملاحظة الأولى تتعلق بصراع وجدته آخذاً بالاتساع بين البصريين من جهة، وبين الوافدين إليهم من محافظتي ذي قار وميسان، فالبصريون يجدون أن أعداد النازحين إليهم أصبحت كبيرة، وأن الأعم الأغلب من عمليات النزوح تحدث بشكل غير قانوني، بمعنى أن النازح لا ينقل نفوسه أو بطاقته التموينية لتتحول، على الأقل، حصته في الميزانية العامة من المحافظة التي ولد بها إلى البصرة التي يريد أن يستقر فيها. ومن المعلوم أن مثل هذا الانتقال يعرض البنى التحتية والخدمات الخاصة بالمحافظة إلى أثقال لا تتحملها، وهو ما ينعكس على شكل مزيد من المتاعب للمواطنين. المؤلم بالموضوع أن المشاكل التي أدت إلى النزوح والتي يتم إهمالها في محافظتي ميسان وذي قار، أخذت تتحول إلى ضغائن بين مواطني البلد الواحد. من هنا يجب على كل حكومة محلية أن تتحمل مسؤولياتها بشكل كامل وأن لا تلقي بأعباء فشلها على الآخرين إلى درجة تعرض لحمة البلد الواحد إلى الخطر، فليس هناك مواطن يفضل ترك مكانه الذي ولد فيه لو وجد فيه ما يلبي الحد المعقول من احتياجاته.
الملاحظة الثانية تتعلق بالأولى، فخلال اتصالاتي ببعض الأصدقاء البصريين من مثقفين وسياسيين ونشطاء مدنيين، اكتشفت بأنهم يركزون بشكل اكبر على التأثيرات الثقافية التي تسببت بها عمليات النزوح الكبيرة، حيث يؤكدون بأن لكل محافظة من محافظات العراق طابعها الخاص، ولستةٌ مختلفة من القواعد والأعراف والتقاليد. وأن النازح يجلب معه ثقافته ويحاول ترسيخها حيث يستقر، ومن هنا فهم يُحَمّلون النزوح غير القانوني مسؤولية الكثير من مظاهر التغير في الثقافة البصرية، منها على سبيل المثال اختفاء فرق الهيوا البصرية، التي يقولون بأنها كانت تفترش ارض الكورنيش في الأمسيات وتوزع فنها على الناس مجاناً، اختفاءها إلى درجة تُعرض فنها إلى الاندثار. ومنها امتناع راديو البصرة عن بث الأغاني تحت شعار إنها منافية للذائقة البصرية، متسائلين: متى كان الغناء منافياً لذائقة بلد الهيوا؟
انحدر عائلياً من محافظة ميسان، لكنني كمهتم بالانثربولوجيا لا استطيع ان اتجاهل خطورة اختفاء الملامح الثقافية، والهيوا البصرية مهمة بقدر اهمية طور المحمداوي، وكلاهما يستحقان من الحكومات المحلية الاهتمام نفسه الذي يتم توجيهه نحو مفردات الثقافة الإسلامية، من مزارات مقدسة وطقوس دينية، التي هي الأخرى مفردات تستحق الرعاية والاهتمام، فملامح الثقافة تشبه ملامح الوجه الإنساني، وأي تفريط بجزء منها يعرض الكل إلى التشوه، الميزانية ميزانية كل العراقيين بمختلف مكوناتهم، وصرفها بشكل انتقائي يمثل نحواً من أنحاء السرقة.