النظام الرأسمالي.. هل انتهى دوره التاريخي!؟ | |
يشهد العالم الغربي حالياً (أمريكا والعديد من الدول الأوروبية) أزمة اقتصادية كبيرة وأصبحت ككرة النار تحرق الجميع، وككرة الثلج أيضاً كلما تدحرجت كبرت، ولا ينفك قادة هذه الدول عن توجيه النصائح المكررة والمملة لدول العالم الأخرى في كيفية ترشيد إدارتها وزيادة الرفاهية الاجتماعية وحماية حقوق الإنسان وتعميم نمط لعبة الديمقراطية... وينسون أو يتناسون المظاهرات الشعبية الناجمة عن تراجع معدل النمو الاقتصادية وزيادة حالات التهميش الاجتماعي وغيرها من (الحرائق المالية في عقر دارهم) في شارع وول ستريت وشارع المال في بريطانيا وانهيار اليونان وغيرها، ولا تزال الأزمة ترخي بظلالها. وأمام هذه الأزمة وتضخمها من يوم لآخر بدأ الاقتصاديون الغربيون يبحثون في بطون الكتب والمراجع الاقتصادية علّهم يجدون حلولاً لمشاكلهم، ونسوا أو تناسوا أن هذه المشاكل مرتبطة بطبيعة نظامهم الاقتصادي القائم على الاستغلال والظلم وتوريق الاقتصاد والابتعاد عن الاقتصاد الإنتاجي وكأن (الرأسمالية تقتل الرأسمالية والرأسماليين؟). فقبل عدة أشهر شهدت أمريكا تحركات شعبية واسعة، وهذا التحرك الشعبي بهذه الكثافة والسعة يعكس الشعور بخيبة الأمل من الطبيعة الظالمة للنظام الرأسمالي، وما يسببه من كوارث اقتصادية واجتماعية، بخاصة بعد تحوله إلى ''رأسمال مالي''، فهذا التطور ـ أي رأس المال المالي ـ انعكس انتشاراً للبطالة بين صفوف العمال، وازدياداً لنسبة الفقر بين طبقات المجتمع الدنيا، يظهر مدى تجذر الأزمة المالية التي يعيشها النظام الرأسمالي العالمي ـ والأمريكي بوجه خاص ـ في ضوء الأرقام الصادرة عن مؤسسات إحصائية ومراكز بحوث متخصصة أمريكية. بيد أن أحدث الإحصاءات عن التفاوت الاجتماعي في الولايات المتحدة، أظهرت بوضوح تام، وطبقاً للمعطيات التي جمعها ''إيمانويل سايز'' من جامعة كاليفورنياـ أن متوسط الدخل الحقيقي للأسرة الأمريكية ازداد بنسبة 1,7 بالمائة بين 2009 و2011، أي في غضون العامين الأولين من ''الانتعاش''. غير أن ''سايز'' لاحظ أن1 في المائة من مداخيل الأكثر غنى ازدادت بنسبة 11,2 بالمائة في حين انخفضت عند 99 بالمائة من الطبقة السفلى إلى ما دون 0,4 بالمائة. وعليه، فإن 1 بالمائة من الطبقة العليا استأثرت بـ 121 بالمائة من ارتفاعات الدخل خلال العامين الأولين من الانتعاش الاقتصادي''. بمعنى آخر، أن 1 بالمائة من هذه الطبقة، استحوذت على إجمالي النمو الذي طرأ على المداخيل خلال هذين العامين، أي أكثر من 20 بالمائة. وتظهر الأرقام حجم الانتقال الهائل للثروة، وضخ الأموال في الأسواق المالية على حساب الأغلبية الساحقة من الشعب: الطبقة الكادحة. وكتبَ ''سايز'' أيضاً: ''في عام 2012، من المرجح أن ما ساعد هذه الطبقة في التحسين السريع في موقعها هو الارتفاع المفاجئ لقيمة الأسهم المصرفية وإعادة ترشيد الدخل تفادياً لمعدلات الضريبة المرتفعة في عام 2013. ومن 2011 إلى 2012، ازدادت مداخيل 99 بالمائة من عامة الشعب بنسبة تبدو متواضعة جداً مقارنة بطبقة المجتمع المخملية. وعندئذٍ سيظهر أن التقهقر الكبير لم يكن إلاّ انخفاضاً مؤقتاً في حصة المداخيل التي حصلت عليها هذه الطبقات منذ عام 1970''. هذه الاتجاهات في اقتسام المداخيل لم تكن ببساطة نتاج قوى اقتصادية مجردة. وإنما جاءت من سياسة طبقة معينة ومحددة انطلقت بادئ الأمر مع ''بوش'' وتكثفت مع الرئيس ''أوباما''. ورداً على الكارثة المالية التي حدثت في عام 2008، والتي كانت نتيجة للمضاربة المالية بمستوى لم يسبق له مثيل، فإن المبالغ المالية الطائلة قدمت إلى المصارف من قبل الحكومة والخزانة الفيدرالية. ولإعادة السيطرة على الارتفاع المفاجئ في سوق البورصة، عمدت الخزانة الفيدرالية إلى شراء ممتلكات بقيمة 2 بليون دولار منذ عام 2008، جوهرها طباعة أوراق نقدية معادلة للمال، وذلك لتحويلها إلى نظام مالي. وعلى الصعيد الدولي، اعتمدت الحكومات سياسة مشابهة. والنتائج كانت متوقعة: تضخم الفقاعات المالية من جديد، في حين أن ديون الارستقراطية المالية جرى تحويلها إلى المصارف المركزية والموازنات الحكومية. النتيجة الطبيعية لهذه التدابير كان الهجوم المنظم والمستمر على مستويات المعيشة لشريحة واسعة من عامة الشعب. كما أن عدد ''العمال الفقراء في الولايات المتحدة ازدادت بشكل مخيف. ففي عام 2011، كان 47,5 مليون شخص يعيشون في عائلات متوسط دخلها أقل من 200 بالمائة من معدلات الفقر الرسمية، وهذا تقريباً ثلث العائلات، وهو معدل مرتفع مقارنة بـ 31 بالمائة عام 2010 و28 بالمائة عام 2007. وعليه، فإن خطاب'' أوباما'' المنمق عن ''عودة الطبقة الوسطى المزدهرة'' كشف بوضوح عن سياسات إدارة ''أوباما'' في الولاية الرئاسية الثانية والتي ستكون تابعة تماماً لمصالح الطبقة الحاكمة، وكانت البداية باقتطاع مئات الملايين من الدولارات من ميزانية الصحة العامة. هذه الإحصاءات عن التفاوت الاجتماعي تحدث عنها المجتمع الأمريكي طويلاً: مجتمع تحكمه طبقة أرستقراطية صغيرة. كل برنامج المؤسسة السياسية يمليه الدفاع عن ثروة هذه الطبقة الاجتماعي. إنه الصراع بين هذه الطبقة والطبقة العمالية الكادحة الذي يشكل الانقسام الاجتماعي الأساسي، وليس أشكال السياسات الثابتة التي هي جزء لا يتجزأ من إيديولوجية الدولة. هذه العلاقات الاجتماعية هي ضرورية إلى حد كبير، وذلك لفهم أزمة الديمقراطية في الولايات المتحدة. دون إظهار أيَّ معارضة تذكر من جانب وسائل الإعلام أو المؤسسة، لإدارة ''أوباما'' تستأثر لنفسها حق تصفية مواطنين أميركيين دون رقابة قضائية أو محاكمة عادلة. فمبادئ الديمقراطية الأساسية التي يعود تاريخها إلى قرون خلت ذهبت ببساطة أدراج الرياح. وتحت راية الحرب على الإرهاب شهدنا تنامياً سريعاً ومضطرداً لصلاحيات السلطات التنفيذية في العقد الأخير، فيما يخص التوقيف اللامحدود، والمفوضيات العسكرية، التجسس الداخلي أو الحفاظ على قواعد بيانات الاتصالات بشكل واسع. إن الأشكال الديمقراطية للحكومة الأميركية لا تتفق مع المستويات المخيفة من التفاوت الاجتماعي الذي يطبع المجتمع الأميركي بطابعه. فجوهر النظام الرأسمالي يقوم على أساس تحقيق ''الربح'' لإحداث ''تراكم كمي'' في رأس المال، فليس هناك أي مشروع أو معونة خارجية تقدم للدول الأخرى ـ عدا الكيان الصهيوني ـ لا تخضع لقانون الربح، ولعل تصريح ''دين راسك''، أحد الرؤساء السابقين للبنك الدولي، يؤكد هذه الحقيقة، إذ يقول ما نصه: ''إن كل دولار يخرج من الولايات المتحدة يجب أن يعود ومعه دولاران''، ولا بأس من اتباع كل الأساليب، بما في ذلك الحروب والابتزاز لتحقيق ذلك. فالخيبات والانتكاسات التي مني بها الاقتصاد الأمريكي من منظور الخبير الاقتصادي الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد ''جوزيف ستيغلتز'' (تبدو وكأنها صحوة أليمة لدعاة الحلم الأمريكي... والجدير ذكره، في البداية أن واشنطن استفادت من الوضع الخاص للدولار لتبسط سلطة غير متناسبة قياساً بقدراتها الاقتصادية الموضوعية. ولغاية الآن نجحت أمريكا عسكرياً في ردع أي احتجاج على إيراداتها. ويبدو أن موقفها بات من الآن فصاعداً في موقف صعب الدفاع عنه، سواء أكان من الناحية الأخلاقية أم العسكرية. وضمن هذا الإطار جاء الفيتو الروسي الصيني في مجلس الأمن مثل دعوة للعودة إلى مبدأ الواقعية. وبالتالي لا مفر من إجراء عملية إعادة التوازن). أما في القارة العجوز، فالمفارقة لا تكاد تصدق للوهلة الأولى. أوروبا الغنية مهددة بالفقر والتهميش الاجتماعي. فمع العام الرابع على التوالي، وبعد انطلاق الأزمة المالية العالمية، تظل منطقة اليورو الحلقة الأضعف في الاقتصاد العالمي. وفي ظل هذه الأزمة المستمرة يتعرض الاتحاد النقدي الأوروبي (منطقة اليورو) لصدمة ثلاثية: صدمة مالية، أزمة ديون سيادية، وأزمة للمشروع الأوروبي مهدداً بعواقب سياسية متعددة... منظمة العمل الدولية حذرت من وجود أكثر من 26 مليون أوروبي الآن دون عمل، وهذه الأعداد تتطلب خططاً تنموية واسعة وأموالا كبيرة لدمجها في سوق العمل والإنتاج. منبهة إلى المخاطر التي ترتفع مع ارتفاع البطالة طويلة الأمد وبطالة الشباب على وجه الخصوص، والتي وصلت إلى مستويات حرجة. كما ورد في تقرير أصدرته المنظمة من جنيف بمناسبة افتتاح المؤتمر الإقليمي الأوروبي حول العمالة في أوسلو (08 نيسان 2013)، إن حالة الأيدي العاملة والتشغيل في أوروبا تدهورت منذ تبني الحكومات الأوروبية سياسات التقشف المالية، وأن مليون شخص فقد عمله في دول الاتحاد الأوروبي خلال الأشهر الستة الماضية. وأضافت أن عشرة ملايين شخص إضافي هم الآن دون عمل مقارنة ببداية الأزمة المالية عام 2008، وأن معدل البطالة في أوروبا بلغ في شباط/ فبراير الماضي 12.7 في المائة، وفي منطقة اليورو، بلغ مستوى تاريخياً بتسجيله 13 في المائة. حيث تعاني في منطقة اليورو التي تضم 17 عضواً من الركود كل من إسبانيا وبلجيكا واليونان وأيرلندا وإيطاليا وهولندا والبرتغال وسلوفينيا. بينما تعاني منه خارج منطقة اليورو بريطانيا والدنمارك وجمهورية التشيك. يقول (مارتن وولف) في الفاينانشال تايمز: (يفترض أن يقيم الاتحاد النقدي الأوروبي زواجاً كاثوليكياً لا رجعة فيه، حتى وإن كان زواجاً سيئاً. وإذا لم يتفكك الاتحاد، فإن هناك احتمالاً لبقاء هذا الاتحاد لفترة أطول... لأن تكاليف الطلاق مرتفعة للغاية). المشهد الاقتصادي العام الحالي في منطقة اليورو يبدو سوداوياً، تطبيق برامج إنفاق عام ترتكز على إجراءات تقشفية لمحاولة السيطرة على العجز المالي، والحد من نمو الدين العام النتيجة الطبيعية لهذه السياسات، أن تصل مستويات الناتج والتشغيل أقل من مستوياتها الكامنة... والطبيعي مع مثل هذه الإجراءات، أن تستمر البطالة في الارتفاع، حيث وصلت معدلات البطالة في الاتحاد الأوروبي خلال الربع الأخير من عام 2012 إلى رقم قياسي (11.9 في المائة)، أي أن هناك (26) مليون عاطل عن العمل في (27) دولة أوروبية. معدل البطالة في ألمانيا (5.3 في المائة)، في أسبانيا (26,2 في المائة)، اليونان (27 في المائة). والبيانات تشير إلى تراجع في استثمار الشركات، مع هبوط في الاستهلاك الخاص، مما أدى إلى تراجع اقتصاد منطقة اليورو بنسبة(0.6 في المائة) خلال الربع الأخير من عام 2012، مع تراجع للصادرات والواردات بنسبة (0.9 في المائة) في نفس الفترة، وانخفاض الناتج المحلي الإجمالي في دول منطقة اليورو بنفس المعدل خلال الفترة ذاتها. بالمقابل فإن التوقعات المستقبلية الصادرة عن المفوضية الأوروبية ترسم صورةً مُحبَطة: في عام 2014 يتوقع أن يكون معدل البطالة أعلى من (25 في المائة) في اليونان واسبانيا... ومن المتوقع أن يستمر الانقسام الاقتصادي والاجتماعي العميق في منطقة اليورو. ألمانيا اليوم القوة الاقتصادية الأولى في منطقة اليورو، فرنسا تعاني من تخفيض تصنيفها الائتماني، و(75 في المائة) من الفرنسيين يرفضون التدابير التقشفية... ويقول (مارتن وولف) في'' الفاينانشال تايمز'' (حشرجة الموت الصادرة عن النموذج الاقتصادي الفرنسي لا تزال مسموعة، وعلينا أن ننتظر لنرى كيف ستكون النهاية...)، والوضع في بريطانيا ليس أفضل... الواقع أن الفجوة الاقتصادية داخل الاتحاد النقدي الأوروبي من غير الممكن أن تستمر لفترة طويلة كما قال (أبراهام لنكولن) (إن البيت المنقسم على نفسه لا يظل قائما)، وبالتالي من الصعب جداً أن يستمر الواقع الحالي لمنطقة اليورو. ويسجل محللون أن استراتيجية التقشف تعود بنتائج سلبية على الدول التي تعاني أصلا من ضعف في الطلب المحلي ومن انخفاض في معدل الفائدة. وفي الوقت نفسه، ليس من المعروف بالضبط كيف ستتعامل الأسواق مع تراجع في سياسات التقشف. بينما تمارس الحكومات الأوروبية إضافة إلى ذلك سياسات التبذير وهدر المال والدم في مشاركاتها في خطط الحروب والعدوان، والتي تصب أغلبها في الضد من مصالح شعوبها والنظام الدولي والشعارات الإنسانية التي تتبجح فيها في أغلب الأحيان.
|