اللحظات الاخيرة في حياة الامام علي |
كما يتفجر بركان ثائر ، تدفقت جموع المصلين كالحمم نحو السدة ، حيث كان الامام ، وانهم لينقبضون بالذهول ، وينتشرون بالذعر ، ويغوصون في الجزع ، وينتفضون بخشية المغبة ، ضاربين الى هدفهم بالساق و...الذراع كالذي اطاحت به عاصفة رعناء من حطام سفينة التقمها القاع ، فراح يسبح على غير هدى الى شاطىء مجهول ، في ظلام بحر لجي من القلق والضياع ، يغشاه موج ، من فوقه موج ، من فوقه سحاب ، ظلمات بعضها فوق بعض ، اذا اخرج يده لا يكاد يراها ، فما يهتدى الى بر آمن ، ولا الى بصيص نور .. طائف كابوس ! .. الهول يسود . يحاصر المكان ، ويطبق على النفوس .. القلوب بلغت الحناجر .. اللهوات ملتصقة بالحلوق .. الكلام شهقات .. الاعين اعتلت قمم الرؤوس ! .. وما من شيء ،الى كل هذا ، يسعه ان يترجم المشاعر المضطربة ، مثل دمعة تنحبس ،ودمعة تنبجس ، واحدة يمسكها ان تفيض امل يوهمها تلطف القضاء، وثانية يرسلها فلا تفيض طغيان احساسها بنزوله .. ودهمت الناس ، في هذا المعترك الحافل باصطراع العواطف واختلاط الاصوات واصطخاب الضجيج، صرخة اخرى هلوع اطلقها حجر بن عدي ، كسهم مسموم وكيانه كله يفترسه العذاب : "قتل امير المؤمنين ! .. فجمدت انفاس الناس . لكنه لم يكن قد مات .. الذبالة ما برحت تخفق بومضات ضياء .. الزيت لم يجف في السراج . فالذين خفوا على صرخة حجر الى الامام ، راوا جسده مازال زاخرا بنبض الحياة .. جبروت قوته البدنية ، لاح كانما استطاع ان يعبر به الضربة المصمية بسلام . عتو قدرته على الاحتمال ، بدا كانما ابتلع الالام . جلد سخر بالمحنة . ولولا الدم الذي شهدوه ، يقطر من راسه على وجهه ،على لحيته ،على صدره ،على ثوبه لما خامرهم شك في انه معافى ،ولخالوه على نحو ما طالما الفوه . كان ثابت الجنان ،ركين البناء ،راسخ القدم ،مهيب الوقفة والهيئة ،وقد استند بظهره الى الجدار وواجه بنظرته الجمهور .. قوامه مشدود . عيناه تلمعان . محياه منبسط القسمات ، شفتاه تلونتا ببسمة هادئة آثر ان يرسمها عسى ان تخفف من جزع الناس. وامتدت يمناه في هوادة ادنى الى سكينة الطمأنينة ، تتحسس الجرح الغائر الذي شق راسه الى الجبين ، ثم تنحدر منسابة على صفحة وجهه ، لتمر بلحيته التي اغرقتها الدماء .. ولم يقل كلمة تنم عن قلق . ولا اومأ ايماءة تشي بضيق .. انما لانت ملامحه ، وظهرت عليها علائم الارتياح وهدوء البال ، وهو يقرب يمنى كفيه من عينيه ، يحدق فيها بامعان نظر وتامل ، وقد زوى ما بين حاجبيه - كمن يحاول ان يطالع – فيما صبغها من خطوط وبقع حمراء ، بضع كلمات سطرها القدر على راحته المخضوبة بمداد دمه المسفوك ! .. وتهللت اساريره ، وقد برقت في ذهنه الذكرى – من خلف السنين – كشعاع : "ستضرب على هذه .. فتخضب منها هذه .." صدق رسول الله .. وماله لا يطيب نفسا ، ولا تترقرق الفرحة في محياه ، وقد شارف ما كان يتمناه ؟ في الليلة الماضية ، كانما هفت روحه الى محمد ، فرآه في المنام .. يقول الامام ، شاكيا له : " يا رسول اله .. ماذا لقيتُ من امتك من الاود واللدد ! .." فيقول الرسول : "ادع عليهم .." فيتجه الى ربه : "اللهم ابدلني بهم خيرا منهم ، وابدلهم بي من هو شر مني .." ثم تحل به ، بعد ساعات هذه الضربة الفاتكة ، التي اوشكت ان تخرج الموت من الحياة .. فهو يرى فيها جسره للعبور الى من هو خير من كل اولئك الذين شاقوه ؟ هلا تكون بشيره بلقاء رسول الله ! .. غير ان تلألؤ محياه كان كالوهج الذي يكشف ما حوله فيبديه باهتا تنتشر على جوانبه ، ومن ورائه ، الظلال .. فعلى وجوه الذين احاطوا به تراءت سحائب قاتمة من الحزن والالم ومن الندم والحسرة ومن الشرود والوجوم .. بوجه ابن ابي الساج ، بدا مثل الشعور بالاثم ، الى جوار بهتة مبهوت .. فهو الذي آذن الامام من قليل ، بصلاة الفجر ، وخف يتبع خطواته الى المسجد الكبير .. فلو انه لم يكن آذنه ! .. لو انه لم يكن دعاه للصلاة ! .. إذن لعله كان لا يخرج للناس خرجته هذه .. ولا حرج عليه لانه ، كما يعلمون ، مريض منذ ايام .. لعله يتاخر عن موعد الفجر الدامي ، ويتقدم لامامة المصلين سواه .. بوجه حجر بن عدي امتزج الغضب بالالم والوجوم بالحسرة .. انه لغاضب على نفسه ، ناقم منها ، يجرعها مرارة اللوم كما جرعته وجرعت الامة ، غصص الالام .. فما لقدميه خذلتاه ، في اللحظة الفاصلة ، بل خانتاه ! .. ما لوثبته لم تقطع على القاتل الزنيم الطريق ! .. فلو انه سبق سرعته ! .. لو انه طار وان لم يكن من ذوات الجناح ! .. اذن لترس عن الامام فتلقى الضربة بيمينه .. براسه .. بصدره .. بكل قلبه الممزق المفجوع ! .. بوجه عبد الله بن محمد الازدي ، سرح الشرود والضياع .. كيف نطت عينه لترى وتسجل ، وشلت يداه ان تمنعا الكارثة ! .. كيف ركن الى المشاهدة وذهل عن العمل! .. فلو انه هب من مسرح رؤيته بجوار السدة ! .. لو انه تحرك عند اندفاع عبد الرحمن ! .. اذن فلربما كان يعرقل المجرم ، او يطيش ضربته ، او يخفف وقعها على هامة الامام فيتأجل القضاء بعض حين ! .. بوجه المغيرة بن الحارث بن عبد المطلب غيظ محسور ، مغلول اليد ، مفلول الحد ، كم كان يود لو تركه ينفجر عسى ان يبرد ناره ، ويشفى غليله ! .. لكنه – امتثالا لامر رسول الله – لم يكن يملك الا كظمه ، والا معاناة ضغطه القاسي ، بوقرة الخانق الثقيل ، على صدره ، وعلى فكره ، وعلى كل حاسة وجارحة فيه .. فلو انه لم يكبح نفسه ! .. لو انه مزق ابن ملجم بنفس سيفه الذي انتزعه منه ! .. لو انه نهش لحمه ، ولاك جلده ومضغ عظامه ! .. لو انه مثل به ، وان نهى – بادب محمد – عن المثلة ولو بكلب عقور ! .. اذن لكان هذا اشفى له ، وأذهب لبعض غيظه ، وأدنى الى تفريج شي من همه من اكتفائه بالانقضاض على الوحش ، وشل حركته ، واسلام امره الى عدالة القانون ! .. بوجه الحسن بن علي ظل حزن مكتوم قد عاث بقلبه عيث اعصار جائح لم يدع منه غير فتات ، ثم عبث بملامحه ، فغير لونه ، وغور عينيه ، وحفر اخاديد عميقة في جبينه وخديه قفزت بعمره الى وهن الشيوخة وانه بعد لفي عنفوان الرجولة .. كان يحس فداحة الالم المضني الذ يكابده ابوه . ويشفق عليه من هذا الجلد الذي اصطنعه ، وقهر نفسه على احتماله ، ليخفف عن الناس وقع بلواه . ويدرك ان خطبه ، وخطب امته فيه ، ليس مما يستطيع ان تصفه المشاعر، او يرسمه التعبير ، او تتسع له رحابة العزاء .. قلبه يحدثه ان التفاؤل قد هاض ، و الامل قد تهاوى ، وطلائع الموت قد اخذت تضج ضجيجها ، بكل ايدها وقوتها ، لتسحق الحياة ، وان هي الا مثل خفقة ثم يخبو السراج ! .. لكنه غالب دمعه الذي كان حائرا حينذاك في مقلتيه ، ليبتسم في وجه ابيه .. ثم دنا منه يحتضنه بذراعين مشى فيهما ، مع الحنان ، الارتجاف وهو يهم ان يعينه ليبرحا مسرح الماساة . فما كاد يفعل حتى احس بالامام يدفعه قليلا باحدى يديه ويشير بالاخرى ناحية ، وقد بدا في عينيه انكار . وتلفت الحسن ينظر هناك . على منأى خطوات ، بجانب من المسجد غرق في الضجيج ، شهد جموعا من المصلين يحيطون بابن ملجم ، وقد هاجهم الغضب والاسى ، ينزون عليه بما في ايديهم ، ويركلونه ان وسعهم ان يحركوا الاقدام ، وينهشون لحمه بانيابهم كالسباع ، وسمع اصواتهم الهادرة تعتوره ، بما تستطيع السنتهم ان تقذفه من حمم الاقذاع .. "يا عدو الله ! .. " "قتلت خير الناس ! .." "أهلكت امة محمد ... " .. والمجرم بينهم صامت لا ينبس بكلمة ، جامد لا يدفع عن نفسه ، كانما فقد الشعور . كانما تحول لتمثال . ولا غرابة ان هو غاب عنهم بوعيه لانه عندئذ يتبع خطوات رفيقيه الى دمشق والفسطاط ، لينعم معهما بنصر كنصره اذ قتلوا رؤوس الضلال ! .. ولا غرابة ايضا لو احتمل هذا البلاء الذي يصبه عليه الناس ، لانه كان احرى بان يتلذذ بالتعذيب كما يتلذذ شهيد !
وخف بضعة من رجال الامام الى تلبية اشارته ، فانقذوا الجاني من سخط الجمهور .. وعلى الاثر تحامل عليٌ على بقية عافيته ، وانطلق يجتاز السدة عائدا الى غرفته يحف به نفر من الآل والصحب . وعندما توسد فراشه تعلقت ابصارهم بوجهه وقفزت آذانهم الى شفتيه ..... وسمعوا انفاسه تتواتر في رتابة وانتظام .. ورأوا ملامحه قد كساها الهدوء . وعينيه تجولان فيهم هنيهة بنظرات ملؤها سكينة ورضا ، تشيع في قلوبهم طمأنينة ثم تجاوزهم الى ما وراءهم ، وهي تتلون بالحنين ... فلعلهم حينئذ احسوا بشىء من الامن . لعلهم تطلعوا الى غد يجيئه بالبرء ، ويجيئهم بما يقشع الغمة . لعلهم توسموا في الصباح الذي يهم ان يسفر ، بشير رجاء ... فأما الحسن فقد انس غير ما انسوا في تلك النظرة الساجية المترحلة عبر النفر المحتشد حول الفراش . عبر الجرح والالم والاحزان .. عبر دنياه ودنيا الناس ... ليوشك ان يتبينها تسبح الى عالم غير منظور . تطير لمهوى الاشواق . تهفو الى لقاء رسول الله .. وما كان الفتى ، بتصوره هذا راجما بظن ، ولا اسيرا لوهم . ولا سادرا في خيال .. بل كان يتروح ذكرى ماثلة ويستعيد كلمات ، ويستنىء ما سمع مغزاه.. فقد روى له ابوه ، قبيل الصلاة قصة المنام .. ... واما النفر الملتفون بالجريح فقد افلت منهم الرجاء الذي تلقفوه ، وتمزق الامن الذي خالجهم ، واناخ عليهم الروع الذي حبسوه ، منذ قليل ، قد انزاح حين رأوا اثير بن عمرو بن هانىء الطبيب ، يميل فيهمس باذن الامام بعد ان فحص جرحه :
"اعهد يا امير المؤمنين ."
وحلق الكمد في جو الحجرة ، مع اللهفة ، والاحساس بالضياع .. ولكن الامام بدد الوجوم الثقيل اذ دعا بالقاتل فادخلوه .
فقد امتلا المكان بالهمسات . ثم سرى صوت علي، رصين النبرة ، واضح الجرس يقول :
"النفس بالنفس . ان انا مت فاقتلوه كما قتلني وان سلمت رايت فيه رايي ." . فكانما تملكت نشوة النصر القاتل ، فقال في شماتة وخيلاء ، وهو يعني سيفه بالمقال :
"لقد اشتريته بالف ، وسممته بالف ، فان خانني ابعده الله ! .."
وكثر اللغط . وتشابكت عبارات . وسالت عبرات ..
ولكن الامام حسم النزاع ..
امر فخرج الآثم ..
وامر فخرج الناس .
واسلم قلبه الى السكينة وهدوء البال ، ينفرد باشواقه . في انتظار لحظة للقضاء .. فلقد عهد عهده . وادى ما عليه . وجالد الدنيا لينقي الانفس وينشر النور .. وان هو الا يوم وبعض يوم ثم يكون لقاؤه باحب الخلق ، رسول الله .
وعندما مالوا بجثمانه يوسدونه التراب ، كانوا يميلون عندئذ برجل يعز ، الى ابد الدهر ، مثله في الرجال .. بربيب محمد ، وصاحب نجواه ... بحامل مشعل هداه . بقرين لبنته سيدة النساء الزهراء ..
وعندما سرى نبأ موته في الناس ، لم ير قط باكيا كذلك اليوم ، الذي دهم البشرية كلها بداهمة قاصمة ، اصمت النبل والشرف والمثل الرفيعة التي تعز الانسان ، واحرقت الامة بنار لا يطفىء لهبها بكاء ..
وعندما بلغ الخبر مدينة الرسول ، وزلزلت به الانفس ، ادارت ام المؤمنين عائشة فيما حولها عينا غائمة ، ثم نفثت بلهجة كانها انين :
" والقت عصاها واستقر بها النوى ... كما قر عينا بالاياب المسافر ! "
ومسحت دمعة تحدرت على خدها وهي تقول :
"رحم الله ابا الحسن ! .."
فقد مسح الموت الخصومة ، وحسم اختلاف الاحياء ..
*************** منقول من كتاب "الامام علي بن ابي طالب" للمفكر المصري عبد الفتاح عبد المقصود نقله: حميد ال جويبر |