كنت اتنقل بين غرفتي المنزل والاستقبال ، بعد انطفاء الكهرباء وحلول الرمضاء بدلا عنها ، وإذا بذبابة تترنح على الارض وتحاول الطيران ، وكأن (بف باف ) قد أصابها بمقتل ، عندها تذكرت حكاية أحد التلاميذ في المناطق الجنوبية المحرومة أنذاك (ولازالت كما هي للأسف) ، عندما طلب منه معلمه أن يقرأ الدرس ، كان التلميذ مترددا وخائفا من بطش المعلم حينما يخطأ في القراءة ، وكان موضوع الدرس ( ذباب .....ذباب..... الولد يطرد الذباب ) ، فقال التلميذ وهو يشير بيده الى صورة الذباب والولد في قراءته الخلدونية وكأنه ينوح (ذبان ..... ذبان .....الولد ينش بالذبان .. أهي ..أهي ) وأخذ يبكي وهو يمسح ما تمكن له من عينيه ، وبيدين مضمومتين ، وفم مفتوح معوج ، حتى يخفف العقوبة المنتظرة من معلمه .
ظاهرة اختفاء الذباب هذه الايام والتي لم نعهدها سابقا ، تستحق الاهتمام والدراسة من قبل علماء الاحياء والبيئة في العراق ، وربما لم يلتفت اليها السياسيون والمسؤولون ،لأنهم لم يعتادوا على رؤيتها ، نظرا لعيشهم الرغيد وحصانة منطقتهم الخضراء ، أو لانشغالهم بأمور أخرى ، قد تكون اكثر أهمية ، والأجدر بنا ان نترك هذا الموضوع لمختصيه ، ولا نكون متطفلين على العلماء في بحث هذه الظاهرة ، ولكن .. لدينا حقيقة واحدة على عامة الناس والعلماء الاذعان لها ، هي أن الذباب فقد سبل العيش في بلاد الرافدين ، فقرر الهجرة ، ليس لأنها أصبحت نظيفة وخالية من النفايات ، التي تعتاش عليها ، ولكن هناك اسباب أخرى للهجرة وحالهم فيها حال البشر .
مثلا قبل ايام أكتظت دوائر الجوازات بالمراجعين لغرض السفر الى الخارج ، قبل حلول شهر رمضان المبارك ، لقضاء أيام الصيام في أماكن باردة كإيران وتركيا ولبنان ، وهذا انما يدل على سعة الرزق وتحسن الحال عند بعض الناس ، وإن كانوا قلة ، وهي حالة طبيعية صحية وقد نسميها اعلاميا ، هجرة مؤقتة ، أما التي تؤرقنا وتجعلنا نقضم الشفاه ونتساءل بأستمرار ، فهي هجرة العقول المستمرة أو الهجرة الدائمية للكفاءات ، ( والتي لا يمكن مقارنة تأثيرها على الوطن والمجتمع كما الاخرى ) ، فقد كانت مستفحلة قبل 2003 م وازدادت بشكل متسارع هذه السنوات ، وبالتأكيد هو نفس السبب الذي يجمعهم مع الذباب ، وهو فقدان سبل العيش ، والغريب أن الحكومة بدأت تستورد ممرضين أجانب هنود وغيرهم ، للعمل في المستشفيات ، كما هو الحال في الناصرية ، وخوفنا القادم هو استقدام أطباء أجانب ، وأطباء العراق يملئون المستشفيات العالمية ويحتلون الصدارة فيها على طول خارطة العالم وعرضها وبكل اتجاهاته وقاراته .
عدم حماية العلماء والاوضاع السياسية المتأزمة ..الأزمات السياسية المتراكمة ..المفخخات والتفجيرات اليومية .. تراجع أداء المؤسسات الحكومية ..تسارع وتيرة أخبار الفساد المالي والإداري وإنحسار الشفافية ، قد تكون أسباب وجيهة ، وهناك من الساسة الذين أستلموا السلطة بعد السقوط ، لم يكن أحدهم يحلم حتى بالعودة الى أرض الوطن والعيش كمواطن عادي ، فكيف إذا به يتسلم زمام الأمور ، والسيطرة على ثروات الدولة ومقدرات الناس (والعقول العلمية منهم ) ، وبالتأكيد لو كان هناك تحسن في الوضع العام لعادت العقول أو عدلت عن هجرتها ، ولذلك نرى بأن الامور تسير من سيء الى أسوء .. هجرة الذباب قد لا تضر ، وقد تكون بسبب إرتفاع درجات الحرارة والإحتباس الحراري ، أما هجرة العقول فهي كارثة وطنية .. تضع أمامنا علامات استفهام كثيرة ، نستطيع أن نجيب على المهم منها بقدر معرفتنا بظواهر الامور ، ولكن الاهم نضعه في خانة المسؤول ، إن كان يهتم بأمرها وتلامس احاسيسه الوطنية ، لأن الأمة بلا علماء ، كالجثة الهامدة ، أو كالجسد بلا روح ..
|