ثمة فرضية تُخضع كل شيء إلى السياسة واستناداً إلى هذه الفرضية يكون الاستنتاج المنطقي بأنه لا توجد مشكلة أمنية الاّ وكانت وراءها مشكلة سياسية. ومن هذا المنطلق سيكون خلف كل مشكلة أمنية أسباب سياسية، فضلاً عن الجوانب الفنية والمهنية وبعض النواقص والثغرات الأخرى، والأمر ينطبق على الاقتصاد والاجتماع والقانون والحرب والثقافة والفن والأدب والتربية والتعليم والرياضة والصحة والبيئة وغيرها، بل كل ما يتعلق بعملية التنمية بمختلف جوانبها. وبخصوص انفجار الوضع الأمني في العراق مؤخراً فإن أسبابه سياسية بالدرجة الأولى، بعضها داخلية، وبعضها الآخر إقليمية ودولية، خصوصاً وأن العراق وقع تحت الاحتلال في العام 2003، وكان من أولى قرارات الحاكم المدني الأمريكي للعراق بول بريمر (13 ايار (مايو) 2003 -28 حزيران (يونيو) 2004) قرار حلّ الجيش، الذي امتدّ إلى الأجهزة الأمنية بما فيها شرطة مكافحة الجريمة وحرس الحدود وشرطة النجدة وغيرها. يقول الفيلسوف الصيني كونفوشيوس: "إدرس الماضي إذا أرت معرفة المستقبل"، والحاضر هو حلقة وصل بين الماضي والمستقبل، فقد دفع قرار حلّ الجيش أعداداً كبيرة من منتسبيه إلى خارج الخدمة، وقادها إلى البطالة، ولم تتم عودة سوى عدد محدود منها إلى مواقعها، وذلك بحد ذاته خسارة كبيرة لما تركته من فراغ ونقص في الخبرة على التشكيلات الجديدة للجيش العراقي والقوات الأمنية. وقد اعترفت اللجنة التي يرأسها حالياً حسين الشهرستاني وتضم في عضويتها صالح المطلك وهما نائبا رئيس الوزراء والتي تمت تشكيلها بعد الاعتصامات والتظاهرات التي حدثت في المناطق الغربية، بما فيها التحقيق لما أُرتكب بحق المتظاهرين في الحويجة والفلوجة، مثلما سقط ضحايا من الجيش في الأنبار، أن هناك حيفاً وقع على عشرات الآلاف من هؤلاء المواطنين، بسبب قرار حل الجيش من جهة وقرار الاجتثاث من جهة ثانية، خصوصاً وأن العقوبتين جماعيتين دون تهمة محددة للمتهمين. ولا شكّ أن تلك القرارات ولّدت ردود أفعال، وهذه الأخيرة خلقت بيئة صالحة موضوعياً سواءً للمقاومة بشكل أساس، أو للعنف والإرهاب من جهة ثانية، خصوصاً لبعض الجماعات الإرهابية والتكفيرية مثل تنظيمات القاعدة وما شابهها، والأمر يتعلّق بدرجة الوعي وانعكاس ذلك على مدى ردّ الفعل، خصوصاً في ظل استمرار هضم الحقوق وعدم سلوك سبيل التسامح والمصالحة. ولعلّ هذه الأسباب هي التي كانت وراء اعتصامات الأنبار وصلاح الدين والموصل وديالى وكركوك وبعض مناطق بغداد ولا سيّما مدينة الأعظمية وغيرها. يضاف إلى ذلك فإن تأسيس القوات المسلحة والأجهزة الأمنية، جاء وكأنه اتحاد ميليشيات، وهذه ظلّت تحمل ولاءاتها الفئوية والحزبية والمذهبية والإثنية قبل عقيدتها العسكرية وولاؤها للجيش وللوطن، أي أن الجيش الحالي قوامه الأساسي بعض تنظيمات لواء بدر التي كانت تابعة للمجلس الإسلامي الأعلى والتي تأسست في إيران وتدربت فيها وظلّ تمويلها بعد عودتها إلى العراق لفترة من الزمن منها، وبعض منتسبي أو مؤيدي حزب الدعوة الإسلامي، ثم جيش المهدي وخصوصاً جناحه العسكري والبيشمركة الكردية التي كانت تشكيلات رسمية في كردستان العراق منذ نهاية العام 1991 حين سحبت الحكومة العراقية قواتها وأجهزتها من المنطقة، والصحوات التي تم تشكيلها لمجابهة تنظيمات القاعدة، ولا سيّما في المناطق الغربية. لقد كان ضعف الثقة بين الكتل السياسية، إضافة إلى نظام المحاصصة الطائفية – الإثنية وعدم الوصول إلى التوافق "مبرراً" لرئيس الوزراء للاحتفاظ بمناصب وزير الدفاع ووزير الداخلية ووزير الأمن الوطني ورئيس جهاز المخابرات تحت أمرته، باعتباره القائد العام للقوات المسلحة وقد ساهمت تلك الأسباب في عمليات الاختراق الكثيرة والمتعدّدة والمتكررة، على الرغم من تحسن الوضع الأمني منذ أواخر العام 2007، لكنه كان يتعرّض لانتكاسات كلّما تدهورت علاقات الفرقاء السياسيين . وهناك سبب آخر مهم يتعلق بوجود الاختلافات بين الجيش الاتحادي وبين قوات البيشمركة الكردية التي يفترض أنها تابعة له، لكنها في الواقع العملي لا تتحرك بإرادة قيادة الجيش، بل بأوامر قياداتها المحلية وهو ما تأكّد لأكثر من مرّة، بحيث لا تستطيع قيادة الجيش تحريك جندي واحد، تابع لقوات البيشمركة دون موافقة قيادة الإقليم وتشكيلاته المحلية، الأمر الذي حصل فيه نوع من الإرباك وغياب الجانب المركزي في جيش تابع لدولة موحّدة، سواءً كانت اتحادية أي فيدارلية مركّبة، أو دولة بسيطة مركزية. لكن مثل هذا الاختلال يعود إلى الدستور ذاته الذي حدد صلاحيات السلطة الاتحادية، وترك ما عدى ذلك للسلطات الإقليمية ومن ضمنها سلطاتها على القوات التي بإمرتها وعلى ملاكها، وبما أن هناك ما سمّي بالدستور "المناطق المتنازع عليها"، ولا سيّما بين الاتحاد والاقليم واستمرار استعصاء المادة 140 من الدستور التي تضع الخطوط العريضة للحل، وهي مناطق مختلطة وفيها هوّيات متعددة ومتنوّعة أحياناً، فإن مثل هذه الاصطفافات تركت بصماتها على علاقة الاتحاد بالاقليم، ناهيكم عن تعارض الصلاحيات وتناقضها أحياناً في ظل تفسيرات وتأويلات واشتباك مصالح حاد أحياناً، مما أضعف الجانب الأمني كثيراً وتلك كلّها أمور موضوعية، تؤدي إلى إمكانية اختراق الوضع الأمني، ناهيكم عن هشاشته بالأساس. ولعلّ الخلافات السياسية الحالية هي أسباب راهنة ومباشرة لتدهور الوضع الأمني، خصوصاً وقد عادت التفجيرات لتحصد أرواح نحو ما يزيد على 500 ضحية خلال الأيام الرمضانية القليلة الماضية، وهو رقم مخيف بكل المعايير، لا سيّما وأن موجة الارهاب والعنف ضربت جميع المناطق، من الموصل شمالاً وإلى البصرة جنوباً بما فيها العاصمة بغداد التي استحوذت على حصة الأسد كما يقال، وشملت هذه الموجة جميع الفئات والقوميات والديانات والطوائف لدرجة أن رياضيين وملاعب رياضة ومدارس، كانت هدفاً للعنف والإرهاب، مثلما كان المسيحيون والإيزيدون والصابئة هدفاً آخر، كما استهدفت جوامع ومساجد السنّة والشيعة، دون أي تمييز. إذا كانت مهمة أية دولة تقوم على ضبط الأمن والنظام العام، والحفاظ على أرواح وممتلكات المواطنين، فإن الحكومة العراقية الحالية وحكومات ما بعد الاحتلال فشلت حتى الآن في تأمين المستلزمات الأساسية لتحقيق هذه المهمة، أما الحديث عن دولة الرعاية ودولة الرفاه، فإنه مجرد حلم بعيد المنال في ظل انفلات الأمن وتدهور علاقات القوى السياسية مع بعضها البعض، وكذلك في ظل انعدام ثقة المواطن بالدولة. وإذا كان الاحتلال مسؤولاً عما وصلت إليه أوضاع البلاد، فإن الاختراقات الأمنية الإقليمية ، ولا سيما النفوذ الإيراني يكاد يكون كبيراً في العراق، وهناك تأثيرات ترتفع وتنخفض لتركيا ارتباطاً بموضوع نشاط حزب العمال الكردستاني PKK، مثلما لدول الجوار الأخرى دور موضوعي وذاتي في تدهور الوضع الأمني، فالأزمة السورية والاصطفافات العراقية بشأنها والتداخل الإيراني بخصوصها، وحركة التنظيمات الإرهابية وإمداداتها وانتقالاتها كلّها كانت وراء تدهور الوضع الأمني مؤخراً. ولعل من أسباب الانفجار الأمني مؤخراً هو تعطيل دور البرلمان والخلافات الحادة بين كتله وتأجيل مشاريع القوانين والسعي لإمرار صفقة داخله، بما فيها قانون الانتخابات الجديد، حيث تتجاذب القوى بين القائمة المغلقة وبين القائمة المفتوحة ، والنقاش يدور حول دور رئيس القائمة، فقد عكست انتخابات العام 2010 إن الذين حصلوا على "القاسم الانتخابي" لم يزد عددهم عن 18 نائباً من مجموع 325، الأمر الذي أعطى حقوقاً لرؤساء القوائم لتعيين غير الفائزين، وفقاً للقانون السابق. لقد كان هروب سجناء سجن أبو غريب وسجن التاجي فضيحة حقيقية للحكومة العراقية، وهذه الفضيحة تتكرر بين الحين والآخر، الأمر الذي يزيد من تدهور ثقة المواطن بها. وقد برّر رئيس الوزراء نوري المالكي ما حدث بتواطؤ حرّاس تابعين لمجموعة الصدر في عملية الهروب، وذلك ردّاً على طلب السيد مقتدى الصدر من البرلمان استدعاء المالكي لمساءلته، مؤكداً أن الوضع لم يعد يحتمل السكوت داعياً إلى التغيير. إن أية معالجة للوضع الأمني تحتاج إلى توافق وطني جديد، وتعديل الدستور وسنّ قانون جديد للانتخابات وسن قانون للنفط والغاز بعد تسوية المشكلة مع إقليم كردستان. وهذا يتطلب أولاً وقبل كلّ شيء إرادة سياسية موحّدة، والعمل على اعتماد عقيدة سياسية لقوى الأمن والجيش، أساسها الولاء للوطن والشعب، وليس لهذا الحزب أو الطائفة أو المذهب أو القومية أو الحكومة، فقد ساهم الانقسام الطائفي والإثني في "تمذهب" بعض المؤسسات أو بعض مفاصلها، ناهيكم عن استشراء الفساد المالي والإداري. وسيكون البلد كلّه عرضة للتشظي والتفتت، باستمرار انعدام الثقة أو ضعفها داخل المؤسسات العسكرية والأمنية أو بين الكتل السياسية، وهو الذي دفع بعض المكوّنات للمطالبة بتشكيل قوات خاصة بها سواء عبر فيدراليات، كما هي دعوات المناطق الغربية، أو بعد التفجيرات التي حصلت في توزخورماتو، حيث طالب العديد من التركمان بحمايتهم، وقبل ذلك حصل الأمر في منطقة تلعفر، كما ترددت بعض هذه المطالب لدى بعض الجهات المسيحية في سهل إربيل وغيرها.
|