الإِمَامُ عَلِيٌّ (ع) فَتَى الرِسَالَةِ وَ بَطَلُ الإِسْلاَمِ.. الحلقة الثانية.. محمد جواد سنبه |
فِي الحَلَقَةِ الأولى مِن هذا المَقالِ، تَناولتُ ثَلاثَ مراحلَ مَرّتْ بها حَياةُ الإمامِ عليّ(ع) و هي: (1). مرحلةُ التربيَةِ الأساسيّةِ و الإعدادِ العَقائديّ و الفِكريّ. (2). مَرحلةُ الدِّفاعِ عن رسالةِ الإسلامِ. (3). مرحلةُ بناءِ كيانِ دوّلةِ الإسلامِ. و كانَ لكلِّ مرحلةٍ مِن هذه المراحلِ خصائِصُها و مميزاتُها و دورُ الإمامِ عليّ(ع)، في كُلِّ مرحلةٍ منها. وفي هذهِ الحلقةِ أَتعرضُ للمرحلةِ الرابعةِ، الّتي مَارسها الإمامُ عليّ(ع)، وهي المرحلةُ الأصعبُ في حياتهِ (ع). المرحلةُ التي فقَدَ بها رسولَ الله(ص)، لقدّ فقدَ مُربيه و قائدَهُ و معلمَهُ، لا بلّ فقَدَ مَن كانَ يشغَلُ كُلَّ وجودِه أيضاً. في الثامنِ وَ العشرينَ مِن شهرِ صفر، في العام الحادي عشر للهجرةِ، التحَقَ رسولُ اللهِ(ص) بالرفيقِ الأعلى. و هذا الحدَثُ بالرغمِ مِن شدّةِ فاجعَتِهِ، و أَلِيمِ صَدمَتِهِ على نُفوسِ المؤمنين عامّةً، وعلى نَفسِ الإِمامِ عليّ(ع) خاصّةً. إِلاّ أَنَّ نَفْسَ الإِمامِ أَكبرُ مِن أنْ تُصدَمَ بأمرٍ قدرهُ اللهُ تعالى. مرحلةُ قيادَةِ الدّولةِ الإسلاميّةِ بعدَ الرسول(ص). لقدّ اهتمَّ النبيُّ(ص) بتشكيل خَطٍّ رساليّ، يضمُّ خيرةَ الصَحابةِ بقيادَةِ الإِمامِ عليّ(ع) أَمثال؛ سلمان المُحمَديّ، و المقداد، و أبي ذَر، و عمّار بن ياسر، و حذيفة اليماني رضوان الله تعالى عليهم. وَردَ عن أبي ذر و سلمان جميعاً قالا: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله، بيَدِ عليٍّ عليه السلام، فقال : إِلاّ أَنَّ هذا أَوّلَ مَنْ آمَنَ بيّ، و هذا أوّلُ مَن يُصافِحُني يومَ القيامة، و هذا الصدّيقُ الأكبرُ، و هذا فاروقُ هذه الأُمّة، يُفَرّق بيّن الحقِّ و الباطل، و هذا يَعسوبُ الدّين، و المالُ يعسوبُ الظالمين)( كنز الفوائد/ أبي الفتح الكراجكي/ص121). لقَدّ استعدَّ الإِمامُ عليّ(ع) لمرحلة ما بعدَ الرسولِ(ص)، وأدركَ بوعيةِ الرّساليّ، أنَّ هناكَ ثلاثَ جبهاتٍ كُلٌّ لها رأي في اختيارِ الخليفة. جبهةُ قريشٍ ومنهُم الحزبُ الأموي. وجبهةُ الأَنصار. وجبهةُ بني هاشم. وفي سوّرَةِ أَحداث سقيفَةِ بني ساعدة، أَقبلَ أبو سفيان وهو يقول : (إِنّي لأَرى عجاجةً لا يُطفِئُها إِلاّ دَمّ، يا آلَ عبدَ مُناف : فِيْمَ أبو بكر مِن أُمورِكم؟، أَينَ المُستضعَفان؟، أَينَ الأَذلاّن؟ ، عليّ و العبّاس؟. مَا بال هذا الأمر في أقلِّ حيٍّ مِن قريش؟. ثمّ قال لعليّ : إِبسطْ يدكَ أُبايِعُكَ، فواللهِ لئنْ شئتَ لأملأنّها عليه (على أبي بكر) خيلاً و رجلاً . فأبى عليّ عليه السلام عليه، فتمثل بشعر (المتلمس) ...... فزجرهُ عليٌّ و قال: والله إِنَّكَ مَا أردتَ بهذا إِلاّ الفتنة، و إِنّكَ واللّه طالما بغيّتَ للإسلام شراً، لا حاجة لنا في نصيحتك) .(الكامل في التاريخ لأبن الأثير ج2 ص326). لقدّ هيّأ الإِمامُ عليٌّ(ع) نفسَهُ للقيام بمهامٍّ رساليّةٍ أَساسيّةٍ، أعطاها جُلَّ عِنايَتِهِ و وَقتهِ هي: جَمعُ القرآنِ الكريمِ، و الأحاديثِ النبويّةِ الشّريفة. فهُما المصدر الإلهيّ لتشريعِ كافّةِ الأحكامِ الّتي تَخصُّ الدّولة و المجتمع و الأفراد. الحفاظُ على وِحدَةِ صفوفِ المسلمينَ، و إِفشالِ محاولات التّفرِقةِ، داخل المجتمعِ المُسلم. مراقبةُ شؤونِ الدَّولةِ لحفظِ حُقوقِ النّاسِ، و تطبيقِ الشّريعةِ الرّبانيةِ على أكمل وجه. مُهمةُ توَليّه(ع) قيادة الدّولة الإِسلاميّة بنفسه. وبالنسبة للمهمة الأولى، فقدّ قطَعَ الإِمامُ عليّ (ع) على نفسهِ، أنْ لا يَخرجَ مِن داره، مالمْ يُكمِلْ جمع القرآن الكريم، وأخذت منهُ هذه المهمةُ ستّةَ أَشهرٍ من العمل المتواصل. (... قام بترتيب الآيات حسب النزول وأشار إلى عامّه وخاصّه ومطلقه ومُقيّدِه ومحكمه ومتشابهه وناسخه ومنسوخه وعزائمه ورخصه وسننه وآدابه، كما وأشار إلى أسباب النزول وأملى ستين نوعاً من أنواع علوم القرآن وذكر لكل نوعٍ مثالاً يخصّه. )(علي بن أبي طالب رجل المعارضة والدولة/د. محسن باقرالقزويني ص 112). كما أَنجزَ الإمامُ عليّ(ع) المُهمةَ الرساليّةَ الأُخرى، فجمعَ أحاديثَ رسول الله(ص). وبهذين العملين الجبَارين، حَفِظَ للأمّةِ الإِسلاميّةِ مصادرَ التّشريعِ الرئيسيّةِ للدّين الحنيف، و سُمّيَ هذا المصدر بالجامِعَةِ، أو كتاب عليّ. (و الجامعةُ كتابٌ طوله سبعون ذراعاً من إملاء رسول الله(ص) وخَطّ عليّ(ع)، مكتوبٌ على الجِلد المُسمى بالرِقّ. و يبدو أَنَّ إضافة الجلود بعضها إلى البعض الآخر ،كَوّنَت منهُ جلداً واحداً طولُهُ سبعون ذراعاً. وقد احتوت هذه الجامعةُ، على جميعِ الأحكامِ حتى (أَرش الخَدش) (ديّة الجرح البسيط في جسم الانسان)(المصدر السابق ص 113). أمّا المُهمةُ الثانيةُ التي اضطلع بها أَميرُ المؤمنين(ع)، فكانت الحِفَاظَ على وحدةِ صفوفِ المسلمين، وإِفشالُ محاولاتِ التفرقةِ داخلَ المجتمعِ المُسلم. لقدّ كانَ هدفُ الإمامِ عليّ(ع)، أَكبرَ مِن تولّي مَنصبِ رئاسَةِ الدّولةِ. كانَ لهُ هدفٌ أبعدَ مِن ذلك، أَنْ يقامَ الحقُّ، و يُحكَمُ به، فتنتَظِم حياة الأُمّة. أَمّا أنْ تتضررَ مصَالِحَهُ، فهذا موضوعٌ ليسَ ذا شأْنٍ عندَ الإِمامِ(ع). هذا المستوى مِنَ التفكيرِ الناضجِ نَجِدَهُ في قولِهِ(ع): (لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي أَحَقُّ النَّاسِ بِهَا مِنْ غَيْرِي، و وَ اللَّه لأُسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ، ولَمْ يَكُنْ فِيهَا جَوْرٌ إِلَّا عَلَيَّ خَاصَّةً، الْتِمَاساً لأَجْرِ ذَلِكَ وفَضْلِه، وزُهْداً فِيمَا تَنَافَسْتُمُوه مِنْ زُخْرُفِه وزِبْرِجِه)(نهج البلاغة). إِذنْ الموقفُ واضحٌ جداً عندَ أَميرِ المؤمنين(ع)، فهو يَقصِدُ مِن خلالِ هذا الموقفِ أمرينِ، الأَوّلُ: التماسُ الأَجرِ. و الثاني: الزُهدُ في مَا تَنافَسَ عليهِ غيرُه. ظلَّ الحِلفُ الأَمويّ بقيادَةِ أبي سُفيان، و عمرو بن العاص، يخططُ لإِيقاعِ الفتنةَ بيّنَ المهاجرينَ و الانصار. مُستخدماً وَرقَةَ أفضليّةِ المهاجرينَ على الأنصار. فانبرى الإِمام عليّ(ع)، لِوَأدِ هذه الفِتنَةِ السوداء، التي إِنْ وقعتْ بيّن المسلمينَ فلنْ تقومَ للاٍسلامِ قائمةٌ بعد. (.... فجاءَ (الامام عليّ(ع)) إلى المسجد واجتمع حولَه جمعٌ كثيرٌ من قريش فقال مخاطباً الجمع: (يا معشرَ قريش إِنَّ حبَّ الأنصارِ إيمانٌ و بغضهم نفاقٌ، وقد قَضَوا ما عليهم، و بقى ما عليكم، و اذكروا أَنّ اللهَ رَغِبَ لنبيّكُم عَنْ مكّةَ فنقلهُ إلى المدينة. وكَرِهَ لهُ قريشاً، فنقلهُ إلى الأنصار. ثم قَدِمنا عليهم دارَهُم فقاسَمونا الأَموالِ، وكَفُونا العَمل. فصِرنا مِنهُم بيّن بَذلِ الغنى، و إِيثارِ الفقيرِ، ثمَّ حاربَنا الناسُ فوَقُونَا بأنفُسِهِم.... الخ). وبهذه الخُطبةِ قَطعَ الطريقَ أمامَ جميعِ المتربّصينَ للإِيقاعِ بيّنَ المسلمين. والمُهمّةُ الثالثةُ التي تكفّلَ بها الإِمامُ عليّ(ع) هي : مراقبة شؤون الدّولة لحفظِ حقوقِ النّاسِ، و تطبيقِ الشريعَةِ الرّبانيّةِ على أكملِ وَجهٍ. فقدّ تعاملَ الإِمامُ(ع)، بايجابيّةٍ منقطعةِ النّظيرِ، وهوَ يتقلّدُ موقِعَ المعارَضَةِ البَنّاءَة. هذه المعارضةُ ليستْ كالمعارضةِ التي نعيشُها اليومَ بيّنَ السّياسيين. إنّها معارضةٌ مِن أجلِ إشَاعةِ الحقّ، و تصحيحِ المَسارِ السّياسي للدّولة. مُعَارَضَةُ الإِمامِ عليّ(ع)، لَمْ يكُنْ هدَفُها إِسقاطَ الخَصمِ و إِفشالِهِ، للاستئثارِ بالمنصبِ و سُلطَةِ الحُكم . كلاّ إنِّها مُعارَضَةٌ رساليّةٌ، هدفُها تقويمُ الحاكِمِ، و وضعِ الحقِّ في نصابهِ الصحيحِ، لتستقيمَ حياةُ المجتمعِ، و تَنتَظِمَ أُمورهُ العامّةِ والخاصّة. ولنأخُذَ مثالآً على ذلك: شاورَ الخليفةُ عُمَر بن الخطاب(رض)، أصحابَ رسول الله(ص) في سواد(أَرض) الكوفة، فقال له بعضهم نُقَسِّمُها بيننا، فشاور علياً فقال: (إنْ قّسَّمتها اليومَ، لَمْ يَكُنْ لِمَنْ يجيءُ بعدَنا شيء، ولكِنْ تُقِرُّها في أيديهم يعمَلونها. فتكون لنا و لمنْ بعدِنا، فقال (أي عمر(رض)): وفّقك الله هذا الرأي).(تاريخ اليعقوبي ج2/ص152). يلاحظُ مِن هذا النصِّ أَنَّ الإِمامَ عليّ(ع) نَظَرَ نظرةً استثماريّةً بعيدةَ المَدَى. فرأى أَنْ تُستثمرَ أَرضُ الكوفَةِ، مِن قِبَلِ أَهلها، و بذلكَ تُوظَّفْ الأيدي العاملة، ويتمُّ امتصاصُ البَطالَة. إضافةً لذلك، سَتحصَلُ خزينَةُ الدّولةِ على أَموالِ خَراجِ الأَرضِ المُستثمرةِ، فتكونُ هذهِ الأموالُ عَامّةً نافعةً للجميع. لذا كانَ المشهورُ عَن عمر بن الخطاب(رض) قولَه: (أعوذُ باللهِ مِنْ مُعضلةٍ ليسَ لها أًبو الحسن. وقولَه: لولا عليّ لهلَك عُمر. و قولَه: يا أَبا الحَسَنْ، لا أبقانيَ اللهُ لشدّةٍ لستَ لها، و لا لبليةٍ لستَ فيها). دَخلَ الإِمامُ عليٌّ(ع) يوماً على الخليفةِ عثمان(رض)، ينصَحُهُ و يُنَبِهَهُ، عَمّا سَيؤُولُ إِليهِ مُستَقبَلُ المسلمينَ، إذا ما غَضَّ الطّرفَ في تطبيقِ النِّظامِ على البعضِ، دونَ البَعضِ الآخر مِنَ الناسِ. و إِنَّ مغَبةَ الأَخطاءِ سَتُوِرثُ القَتلَ بينَ الأُمّةِ. في العددِ القادم إِنشاءَ اللهُ تعالى، سنَستَعرِضُ محاوَرَةً جَرتْ بيّنَ الإِمامِ عليّ(ع) وبيّنَ الخليفةِ عثمان (رض)، و نتَأَمّل فيها الأهدافَ السَامِيَةَ للمعارَضَةِ التي يَحمِلُها الإمامُ عليٌّ(ع) مِنْ أَجلِ الحِفَاظِ على مصلحةِ المُجتمع. |