عملية التفجيرات القيصرية

 

في أتمّ براءة الوقت، وانسياب الدقائق والثواني، وتمطي حركات الناس الاعتيادية.. في أتمّها يحدث كل شيء لا يمتّ إلى البراءة والانسيابية والاعتيادية بصلة، فيمد الموت دويّ صمته المذهل ليأخذ كلّ الأبرياء الانسيابيين الاعتياديين إلى هوته التقليدية بمنتهى الإجحاف والوحشية المحدّثة التي يهديها العالم المتقدم إلى عالمنا المتهدم به.

الذهول وحده ولا شيء سواه يهيمن في كل مرة، حيث المكان يحترق والنفوس تنغلق والآهات تنطلق، وحيث يُسخَّر الموت فلا يُنتظر كالعادة، ويُجعل الأجل كحد منجل يقطع بجرة واحدة العشرات، فتتوقف الحياة في هذا المكان ويندمج الوقت بأزمانه الثلاثة بلحظة واحدة مستمرة سائدة كالأحكام العرفية التي تلغي القاعدة حتى تنتهي الحالة الداعية لها.  

 لفـّت الحيرة التي لا تنتهي الناسَ، واستسلموا بعدما همهموا وتكلموا بكلام صمتي إلى أرذل اليأس. لا أحد يدري ماذا يجري عدا ابن سيَّا. نعم انه يدري جيداً لماذا وماذا. وحين سيقول سيقول القولُ ويُفعل المفعولُ. لكن هل سيقول سوى ما هو موجود في الضمائر والعقول؟ انه كأنما يغمِّق لونَ خطوطٍ مرسومةٍ أو كلماتٍ محفورة  مسبقاً.

قال ابن سيَّا في الحشد: " إن التفجيرات التي تطول كلَّ ذي طـُول هي أحكام بالإعدام أصدرتها أمريكا على الشعب برمته وينفذها سياسيون عراقيون جلبتهم ونصّبتهم لهذا الغرض. كل عراقي محكوم بالإعدام مسبقاً وينفذ به الحكم في أي وقت يقرره جلاد كاتم أو ناسف.. انه يعيش الموت صاحياً كلّ حين ويساق إلى الموت نائماً كلَّ حين. ولك أن تنظرَ وتحدَّ النظر لتتعرف على مجرميك وجلاديك، وتحاول جاداً أن تعيد كتابة قدرك الذي لعب به هؤلاء غير المحددين والمعروفين فتحددهم وتعرّفهم". 

وتابع " ليس صعباً أن تعْرفهم اذا تأملت بعمق دمى المسرح السياسي، وبأسلوب تحريكها ستعرف هوية الأيادي الخفية التي تحركها. عندها ستفضحهم، وعندما تفضحهم ستربكهم وتتخلص من قدرك الذي رسموه لك لأنهم سينكشفون أمام النظـَّارة.. سيبدون مجرد دمى معلقة بخيوط، وكل التفاصيل التي تظهرها مرسومة لها: غضبها، بسمتها، عنفها.. كله وهم ورسم.. ويظهرون حلقاتٍ متصلة وقضايا ذات صلة بين قبل وبعد، وأن التغيير الذي يدعونه تغرير، والاختلاف بينهم اختلاق ". 

تحفزت الآذان وهمهمت الألسن وتحركت النفوس كما تدفع سيارة تعطلت بطاريتها فتنهض قليلا.. كان ابن سيَّا يتذكر أو يستحضر دائماً قول سعد الصفار احد تجار الشورجة وهو يصيح غير آبه زمنَ صدام المقبور (لو هذا الشعب يصير ثور ما يثور). ولكن ابن سيا يرى أن الثورة لابديّة وكإبرة المريض يجب أن يضربها لـ(يطيب). عندها: من هوة الضعف تنبثق قمة القوة، ومن الهزيمة المرة يولد النصر المبين، ومن الألم الممض يتفتح الأمل.

واستطرد ابن سيَّا:" إن التفجيرات والقتل العشوائي يقف وراءهما مخطط منظم جداً. أمريكا وسياسيون عراقيون (عملاء): المخطـِّط والمنفـِّذ يدركان (وراء التفجيرات ما وراءها). إنهم يريدون أن يتنبه الشعب على ما يريدون فيخرج من حيرته البليدة، وكثيرا ما يتفلت من أحاديثهم ما يودون قوله عمداً وسهو عمد. 

كأنهم يقولون: لقد قـُطِعت كردستان بدءاً وهي حديث يوجهون إلى سماعه.. قـُطِعت فاستراحتْ ولم يُسمَعُ فيها انفجارُ ولا جدلٌ يثارُ.. أفلا ينبههم هذا على فائدة القطع والجدع؟ ألا يستصرخهم هذا إلى التقليد؟ أما احد يَسمع فخيراً ينفع وشراً يدفع وانفجاراتٍ يقطع؟!! 

لقد قطع هؤلاء مشاوير طويلة من ترسيخ الطائفية قبل التفجير والتفخيخ.. جهد ساعد به رجال دين مزيفون جعلوا الدين مفرقاً وهو جامع، وقاتلا وهو محيي، ومضللا وهو هادٍ، فتاجروا بالخلاف، وركزوا على نقاط الاختلاف فكبروها وعظموها وأنسوا مدى الائتلاف والوحدة الشاسع للدين الإسلامي الحنيف.

  إنهم دعاة تقطيع.. وحتماً القطع يؤدي إلى إراقة دم؛ ولا يجدون ضيراً في اراقة الدم العراقي المرتخص عندهم، ثم ان القتل على الهوية إعلان دموي للإقليمية بأنها الحل الوحيد لوقف النزيف. عندها سيلتئم جرح ويكف نزف ويبتدئ فرح! إنهم يريدون أن يقولوا فينطقون بالناسف والنازف، ليس خجلاً من جرم ما يقولون، ولكنهم يخافون من شعب خائف منهم وتلك مفارقة! أفلا يتنبه الشعب الخائف على خوفهم فيسترد جرأته.. وهل سيخاف ممن يخاف منه حتى يفقد بتقطيعه ما يُخاف فيه.. انه ينزف قوته لا دم أبنائه، ويفقد خوف أعدائه باطراد خوفه. 

إذا صار إلى إقليمين (شيعي) و(سني) وقبلها (كردي) فستنتهي الحكاية.. حكاية شعب ذي تاريخ وأمجاد ودين صحيح ومواطنه مشهودة، ليصبح شُعوباً ضائعة.. وستنتهي التفجيرات عندئذٍ لان العملية انتهت وبنجاح، فلا يلزم عملية ودماء او تفجيرات جديدة.. قال ابن سيا :" على الشعب أن ينظر من هذه الفجوة إلى تلك الهوة ويستعد بكل قوة للضرب بقوة، ليعيد وحدته وتاريخه وجغرافيته، ليعيد سيادته، ليرجع العراق بعد غيبة طالت وفراق. 

إنهم إذن يخيرون الشعب بين القتل والتقسيم...  فليعلم إذن وليحرس الوطن من الطائفية والإقليمية.. وأطلقها أبيات واضحات فاضحات:

 

 

إن كان معنى السنَّةِ هو التزام السنَّـــــةِ

أو كان معنى الشيعةِ دينَ النبي والعتــرةِ

أليس قطعُ وطـــــنٍ وقتلُه ببدعــــــــــةِ

هل نزلت في آيــــةِ أم فصِّلت في سورة

أو بحديثٍ، والرســـــــــــــــــــــــــــــولُ قد دعا للوحدة

أهلَ الحفاظ والتقى من سنة وشيعـــــةِ

لا عملاء أرجفـــوا لغدرةٍ وفجـــــــــرةِ

اعلوه واحفظوه ديناً من مهـــــــــــــــــــــــــاوي الفتنةِ

محَّضه الله لــــــه وللعلا والرفعـــــــة

فلا لنيل دنيـــــــةٍ يغدو، ومسخِ دولـةِ

هو العراق بيتنـــا نعمره كأســــــــرةِ

يا صائحاً مثل الغـــــــــــــــــــــــراب ناعباً بالفرقــــــةِ

لنجمع الشملَ معاً لا عزَّ كالاخــــــوَّةِ


أ.م. د محمد تقي جون