كيف ندرس الثقافة ؟

 

مع تعاظم أهمية العولمة في حياتنا اليومية يصبح البحث الثقافي cultural research حجر الزاوية للتقدم الأجتماعي ، فالكثير من المشاكل التي تنشأ بين الدول وحتى بين الأشخاص تنجم عن سوء فهم للثقافة والأختلافات الثقافية. من هنا يهدف البحث الثقافي الى خلق فهم لآليات الثقافات المختلفة ومضامينها عبر أرجاء المعمورة سعيا وراء أيجاد حلول لجوانب سوء الفهم وكذلك التعصب.

ويواجه البحث الثقافي العديد من العوائق لعل أكبرها يتمثل في الكيفية التي ننظر فيها الى الثقافة culture وندوّن ملاحظاتنا عنها ومن ثم نورد تفسيراتنا بشأنها. وقبل أن ندرس الثقافة لابد أن نتفق على تعريف واضح لها فمع وجود تعريفات كثيرة لها فأنها تبدو متفقة على النظر أليها بأعتبارها تشير الى تراكم الأنظمة المعرفية التي تشترك بها جماعة معينة من الناس. ورغم السهولة والبساطة التي ينطوي عليها مثل هذا التعريف فأن كيفية دراسة الثقافة قد أثارت الكثير من النقاشات والحوارات من جانب العلوم الأجتماعية.

وجهات النظر الداخلية والخارجية

لابد أولا من فهم ماتعنيه الثقافة ليتم الأنتقال بعدها الى فهمها ودراستها. في هذا السياق هناك منهجان لفهم الثقافة هما: (1)النظرة (الداخلية) emic من منظور الباحثين في مجال دراسة أصول الأعراق والثقافات ethnographers الذين يسعون لبيان ماهية ثقافة من خلال تلك الثقافة ذاتها ، أي من وجهة نظر المنتمي أليها: (2) النظرة (الخارجية) eticمن منظور الباحث في دراسة أصول الأعراق والثقافات والتركيز على بيان خصائص ثقافة ما وفق المعايير العامة ومن ثم تستثمر وجهات النظر هذه لتحديد الحقائق الكلية universal.

المذهب النسبي الثقافي cultural relativism

تعني النسبية دراسة ثقافة ما من خلال الثقافة ذاتها أعتمادا على وجهات النظر الداخلية فحسب. ويمكن تقسيم هذه النسبية الى فئات عديدة مختلفة تبرز منها ثلاثة اساسية كثيرا مايتم التطرق اليها في العلوم الأجتماعية هي: المذهب النسبي الوصفي والمذهب النسبي المعياري normative والمذهب النسبي المعرفي epistemological. يعتمد المذهب النسبي الوصفي على نظرية الحتمية الثقافية cultural determinism والتي تشير الى أن الثقافة هي التي تقرر المزايا الأجتماعية والنفسية الأنسانية. ومن هنا فأنها تفترض أن الثقافات المختلفة تمتلك أفكارا وطرق مختلفة لفهم العالم. ويرى المذهب المعياري أنه لايوجد ثمة سبيل ما للحكم على ثقافة ما أستنادا الى معيار الأهليّة أو الأستحقاق (ماأذا كان مظهر ما جيدا أم سيئا) لأن المعايير بمجملها تتشكل ثقافيا. أما المذهب المعرفي فيشبه في منهجه المذهب الوصفي بأستثناء الفكرة القائلة أن الثقافة تملي على المنتمين أليها مايفكرون به حول أنفسهم وكذلك مايشعرون به حيال حياتهم وبذا يقدم ألينا وجهة نظر مفتوحة الأفق بخصوص التنوع الثقافي (أنظر مقالة سبيرو Spiro (1986) الموسومة "المذهب النسبي الثقافي ومستقبل علم الأنثروبولوجيا").

تجدر الأشارة أن علماء الأجتماع لم يجمعوا على دعم الأفكار التي تضمنتها تلك الفئات الثلاث حيث تباين تأييدهم لهذه الفئة أو تلك أو أحيانا للأفكار الثلاثة مجتمعة. ولم تلق هذه الأفكار رواجا لها ألا بعد جهود عالم الأنثروبولوجيا الأمريكي فرانز بوز Franz Boaz وظهور المدرسة التاريخية الأمريكية American Historical School حيث عمد بوز وأتباعه الى رفض فكرة التطور الثقافي لكون مثل هذا التوجه يوحي بأن ثقافة ما أفضل من مثيلاتها الثقافية الأخرى فضلا عن أن ذلك يعتبر بمثابة حصيلة وجهات نظر تتمحور حول عرق ما بذاته!

ومايزال الجدل محتدما منذ فترة طويلة في ميدان علم الأنثروبولوجيا حول المذهب النسبي الثقافي والوحدة النفسية ، فهل الثقافات المختلفة غير قابلة للقياس المشترك وهل يستحيل أطلاق تعميمات حول الثقافات لأن كل فرد ينظر الى العالم على نحو مختلف أستنادا الى الثقافة التي ينتمي اليها؟ فأذا كان الأمر كذلك ترى كيف يتسنى لدارسي أصول الأعراق والثقافات تقديم وصف لمنظومة القرابة في ثقافة مختلفة أو وصف الطقوس والشعائر وغير ذلك من الجوانب الثقافية؟

المذهب المادي الثقافي Cultural Materialism

برز هذا المذهب بصفة رد فعل على المذهب النسبي الثقافي ، وهناك أعتقاد أنه ظهر للوجود مع كارل ماركس Carl Marx حيث يبين ماركس أن المجتمعات والثقافة يتصفان بكونهما يتبعان نظاما محددا systemic ، وقد أنصب جل أهتمامه على الكيفية التي تحافظ فيها تلك الأنظمة على نفسها ومن ثم تدمر نفسها. ويرى ماركس أن مثل هذا التغيير لايحصل بسبب الأيديولوجيا والنظام الأجتماعي لثقافة ما أنما بفعل توفر فرصة مؤاتية في البيئة المحيطة ( أنظر كتاب سي جي آرثر C. J. Arthur (1970) الموسوم الأيديولوجية الألمانية (لندن). في أطار ذلك تعتبر كل من الأيديولوجية والنظام الأجتماعي تعديلات للتغيير البيئي الأمر الذي يجعل الثقافات قابلة للتنبؤ فضلا عن أمكانية أجراء مقارنا فيما بينها.

البحث الثقافي

أضافة الى الآراء المرتبطة بكل من المذهب النسبي والمذهب المادي بخصوص البحث الثقافي فأن هناك آراء أخرى تتساءل جميعها عن أمكانية أجراء البحث الثقافي في أطار علمي بحت ، فهذه الآراء ترى أن العلم قابل للقياس ، فأذا لم يكن بالأمكان قياس البحث الثقافي فعندئذ لايمكن أعتباره علما. في هذا الشأن يرفض كل من بوز وأتباعه فكرة أمكانية قياس الثقافة لأن ذلك يدلل على التطور الثقافي وهي فكرة ناشئة عن مذهب التمحور حول عرق ما. من هنا يصر البعض على أستحالة أعتبار البحث الثقافي علما بل لاينبغي السعي للبرهنة على ذلك!

ويرى الكثيرون من أتباع المذهب النسبي الثقافي أن الدراسات الثقافية لايمكن أن تأخذ طابعا علميا بسبب عدم أمكانية أطلاق التعميمات عبر الثقافات المختلفة ، لذا يتعين على الباحثين أن يركزوا دراساتهم على الثقافات الغربية فحسب ومن ثم يعمدوا ألى مقارنتها مع مثيلاتها غير الغربية. أن دراسة الثقافات غير الغربية لن تؤدي الى نتائج يمكن للغربيين أدراكها بدقة ومن ثم مناقشتها.

ويذهب البعض أن المذهب النسبي لايعمل كما يبدو ضمن أطار حقل الأنثروبولوجي أو أية دراسات ثقافية أخرى ، وهي فكرة يمكن الأستدلال عليها من خلال عمل الباحثين في مجال أصول الأعراف والثقافات. وأذا أردنا أن نجعل البحث الثقافي قابلا للقياس فلابد من أجراء مقارنات تغطي مختلف الثقافات أنسجاما ماتدعو أليه وجهة النظر المادية. غير أن ذلك لايعني أن سائر الأعمال النوعية أو وجهات نظر المذهب النسبي في أطار العلوم الأجتماعية لاجدوى منها لأنه أذا ماأستخدمت تلك الأعمال جنبا الى جنب مع وجهة النظر المادية القابلة للقياس فأنها سوف تؤدي الى معلومات هامة للغاية حول ثقافتنا فضلا عن الدراسات الثقافية الأخرى عبر الثقافات. كما يتعين النظر الى المذهب النسبي الثقافي بأعتباره يمثل توجها منهجيا يبيّن خصائص الثقافات الأخرى من ممارسات وأفكار في ضوء مايصدر عنها من دراسات تتناول أصل الكون ونشأته وتطوره cosmologies على أساس تعارض ذلك مع الطريقة الوحيدة لدراسة الثقافة وادراكها. أن البحث الثقافي أذا ماتم أجراءه وفق وجهتي نظر المذهبين النسبي والمادي سوف يوفر البيئة التي يمكن من خلالها فهم التنوع بين الثقافات وعبرها.

بقلم: جيسيكا رينولدز Jessica Reynolds

ترجمة: هاشم كاطع لازم أستاذ مساعد  جامعة البصرة  كلية الآداب