يرفع الطائفيون من الشيعة, والملتحقون بهم من البسطاء, وخاصة في مدن الجنوب, صور الخميني والخامئني في مشهد يحتاج إلى تفسير خارج ميدان التخوين السياسي المباشر, لا لإعفائهم من تداعيات هذا التخوين, أو البحث لهم عن مبرر يكفل لهم الخروج الآمن من المأزق الأخلاقي والفكري والسياسي, وإنما من أجل تحقيق إقتراب أفضل لهذا المشهد بما يحقق الخروج منه وفق سبل تحقق غلق الأبواب التي تأتي منها الريح أو خلعها وردم مكانها بالحجارة والإسمنت المسلح. لنتذكر بداية أن مِن بين هؤلاء الذين يرفعون هذه الصور أو يصفقون لها من كان قبل عقود ثلاثة مقاتلا صلبا بين صفوف الجيش العراقي في حربه مع إيران, وإن قسما لا يستهان به كان أيضا ضحية بأشكال متعددة لتلك الحرب التي لا يمكن تبرئة إيران منها. وأنك لو أتيت بإنسان غير عراقي لعجز تماما عن إيجاد تفسير لذلك الذي يرفع صورة قاتل ولده وعدو وطنه ويسير بها فخورا بدلا من أن يفعل العكس, وربما لأعفى هذا الإنسان نفسه عن البحث الصعب عن تفسير مقنع, ولأخبرنا أننا بحاجة إلى عالِم نفس قبل ان نكون بحاجة إلى عالِم سياسة. ودعونا من مسألة أن صدام كان هو المسؤول الأول والأخير عن تلك الحرب, وبإمكان الذين يريدون الهجوم على صدام أن يصولوا ويجولوا ضده في ساحات واسعة ومفتوحة على شرط أن لا تأتي صولاتهم وجولاتهم على حساب الحقائق التاريخية أولا وعلى حساب أوطانهم ثانيا, فالذي عاش هموم تلك المرحلة القاسية يعلم تماما أن الخميني لم يكن شخصا وديعا ومسالما وخاليا من الأحقاد والأحلام, وكذلك كان على شاكلته كثير من معممي إيران يتقدمه اليوم خامنئي نفسه. وهو على طريق إستعادته لحقائق تلك المرحلة سيرى أن حزب الدعوة نفسه كانت له إسهاماته الحقيقية على طريق إشعال تلك الحرب حينما أعلن إنحيازا واضحا لدولة إيران الإسلاموية التي بدأت تتخذ مواقف عدائية تجاه العراق, وحينما كلف نفسه بمهة إسقاط الدولة العراقية لصالح دولة الولي الفقيه نائب الإمام الغائب !. وأن تكون أحزاب كالدعوة وغيرها في السلطة اليوم ليس معناه أنها قد نجحت تماما بإلقاء القبض على التاريخ وتملكت حقوق كتابته. وليتذكر هؤلاء أن الإطمئنان على حصتهم في كتابة التاريخ لا تضمنها صور البسطاء الذين يرفعون صور خميني أو خامنئي, فهؤلاء كان كثير منهم قد رقص لصدام ببراعة فاقت وقتها براعة المرحوم مايكل جاكسون, وكانوا هم أو آباؤهم من هتف ورقص لعبدالكريم قاسم وردد شعار (خمس ملايين تصيح حزب الشيوعي بالحكم) يوم كانت الخمسة ملايين وقتها هي كامل تعداد الشعب العراقي, ففي السياسة معظم رأي العامة هو متأسس على رأي الخاصة من اصحاب السلطة. حتى بن ابي طالب كان أكد على أن الأغلبية من الناس هم بشر رعاع ينعقون مع كل ناعق.. ولنعترف أننا ما زلنا بعيدين عن تغيير ذلك بفعل حملات التجهيل والتخريف التي يقوم بها الإسلام السياسي مضافا عليها حالة الضياع والمتاهات التي دخلها العراق بفعل السياسات الهوجاء لصدام حسين خاصة بعد إجتياحه للكويت, والتي تركت فراغا نفسيا وثقافيا وأخلاقيا كبيرا سرعان ما ملئته أحزاب الدين السياسي. لكن ذلك ليس مقدرا له ان يستمر بلا نهاية, فالتجربة أكدت على أن أحزاب الدين السياسي غير قادرة بنيويا على أن تكون بديلا إيجابيا لمرحلة الدكتاتورية السالفة, كما أن بإمكان التطور أيضا والإنفتاح على العالم ووسائل الإتصالات أن يُفّعِل ويُعّجِل من ولادة المستقبل الأفضل. ولأن أحزاب الدين السياسي في العراق غير قادرة على أن تبني دولة وأن تشيد بناء فإن تغطيتها لعجزها ومحاولتها البقاء في السلطة لن يكون لها طريقا غير طريق التخريب السياسي والتجهيل الفكري وغير مزيد من شق الصف الوطني عن طريق تعميق الطائفية وإحياء تاريخ الخصومات, ويرافق ذلك رفع مستويات الإفساد وشراء الضمائر والإعتداء على الحريات. ومن الأكيد ان كل ذلك سيجري على حساب العراق وأهله لكنه في نفس الوقت سوف يكون أيضا لحساب التعجيل بسقوط الإسلام السياسي العاجز والكسيح والمعطل الفعل والإرادة. ولعل أخطر ما يحمله الإسلام السياسي حين تصدره للسلطة هو زج الدولة في مساحة التناقض والخصومة ما بين الفقه الإسلاموي السياسي والفقه الوطني السياسي. وإن المعركة الحقيقة للدولة الوطنية, سواء كانت هذه الدولة هي العراق أو مصر أو تونس, هي التي تحدث في مساحة التناقض هذه. وليس من باب التطرف أن نقول أن الفكر الإسلاموي السياسي من جهة والفكر الوطني السياسي من جهة أخرى لا يمكن أن يجتمعا تحت سقف واحد لأنهما خصمان لدودان لبعضهما. ففي مصر لم يكن غريبا أن يحدث الصدام سريعا حينما حمل الأخوان المسلمون معهم إلى السلطة تناقضهم الفقهي والسياسي مع اساسيات الدولة الوطنية المصرية وراحوا يعملون على أخونتها, ثم تبين أن رجالاتهم صاروا أقرب لرجالات حماس ومجموعة أردوغان وإخوان قطر منهم إلى المصريين الوطنيين إسلاما ومسيحيين. والسبب لم يكن عصيا على الفهم, لأن حركة الأخوان المسلمين هي ذات فقه اممي يتقدم وحتى يتناقض مع اساسيات الدولة الوطنية, ولذا فإن وجودهم على رأس سلطة الدولة الوطنية يجسد حالة من التناقض الصارخ ما بين الدولة الوطنية على الأرض وما بين الدولة الدينوية التي ترفع شعارات الخلافة الإسلامية, فإذا بهم والحالة هذه قد صاروا حكاما للدولة الوطنية وخصوما لها في ذات اللحظة. على صعيد المبدء والعام, حالة مصر وتونس هي نفسها حالة العراق, دولة بفقهين متخاصمين ولا سبيل لها نحو الإستقرار إلا بوجود أحدهما, أما دولة الإسلام السياسي أو دولة الفقه الوطني. وفي العراق يحدث أيضا أن يرى الإسلاموي نفسه أقرب إلى طهران أو أنقرة منه إلى بغداد, إنطلاقا من فقه اممي سياسي شبيه لفكر الإخوان المسلمين في مصر وإن إختلفت طرق تصريفه طائفيا وسياسيا. وحينما يرفع العراقي الإسلاموي الشيعي صورة خامنئي او الخميني فهو ليس من حقه ان يلوم الطائفي السني حينما يرفع صورة أردوغان والقرضاوي, فالمشهدان مدانان بنفس القدر, ولا يهم إذا كان الأول يبوب من باب الفعل والثاني يبوب من باب رد الفعل. وعلى من يحاول البحث عن تفسيرمقنع لحالة الشيزوفرينيا السياسية هذه أن يبحث عنها تماما في ساحة الخصومة ما بين الفقه الإسلاموي السياسي والفقه الوطني السياسي. وسوف يجد في ساحة كهذه تفسيرا ملائما لصورة العراقي الذي يرفع صورة قاتل إبنه أو إبن وطنه ويحتفي بها. وسيفهم أيضا كيف صار بإمكان الخيانة أن تكون مجرد إختلاف في وجهات النظر.
|