فقه الاخلاق... الشهيد السعيد محمد الصدر: كتاب الصوم (٤)

 

 

 

 

 

 

في معنى شهر الله

يقتضي الحديث عن الصيام الحديث عن شهر رمضان، الذي هو شهر الصيام في الإسلام. 
فإنَّ الصيام وإن كان ممكناً بل مستحباً سائر أيام السنة, عدا يومي عيد الفطر وعيد الأضحى, إلا أنَّ اختصاص شهر رمضان بالصيام ووجوبه فيه، يجعل بينهما خصوصيةً لا توجد خارج هذا الشهر المبارك.

وإذا تحدثنا عن شهر رمضان، وجدنا أوضح مزيةٍ له، هو كونه شهر الله سبحانه. فما معنى هذه النسبة إلى الله عزَّ وجلّ؟. 
لا شكَّ أنَّ المخلوقات عموماً تختلف بالأهمية تجاه الخالق سبحانه, بمقدار ما اقتضت الحكمة من ذلك. والله سبحانه غنيٌّ عن العالمين, لا ينفعه قرب القريب ولا يضرُّه بعد البعيد. غير أنَّ ذلك كله في مصلحة المخلوقين, ينال كلُّ واحدٍ منها بمقدار استحقاقه. 
وقد يكتسب ـ في هذا الصدد ـ المخلوق درجةً عاليةً من الأهمية والرفعة والقرب المعنويِّ إلى الله عزَّ وجلّ، بحيث يكون منسوباً إليه, ومضافاً إلى اسمه الكريم. 
ولذلك أمثلةٌ عديدةٌ، نطقت بكثيرٍ منها الآيات الكريمة, كقوله تعالى: [وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ][[524]]. وقوله تعالى: [فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي][[525]]. وقوله تعالى: [مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ][[526]]. وقوله تعالى: [عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ][[527]]. وقوله عزَّ من قائل: [إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ][[528]]. وقال:[أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ][[529]]. وقال: [هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ][[50]]. إلى كثيرٍ من الآيات الأخرى. 
فقد نسب في القرآن الكريم العديد من الأشياء إلى الله عزَّ وجلّ, ونسب بعضها في السنة الشريفة. ومن أمثلتها ما هو مشهورٌ بين الناس من ألقاب الأنبياء الستة الرئيسيين. فآدم صفوة الله, ونوحٌ نبيُّ الله, وإبراهيم خليل الله, وموسى كليم الله, وعيسى روح الله, ومحمدٌ حبيب الله. ويمكن أن يستفاد بعض هذا من القرآن الكريم أيضاً، كما لا يخفى على القارئ اللبيب. 
فكذلك الحال في شهر رمضان المبارك الذي هو شهر الله, لأنه ذو مزيةٍ عاليةٍ جداً في الإسلام، بحيث نسب بهذه النسبة الشريفة المباركة. 
دعنا نسمع الإطراء على هذا الشهر المبارك من أحد أدعية الصحيفة السجادية للإمام زين العابدين علي بن الحسين A, حين يخاطب شهر رمضان قائلاً:
السلام عليك ياشهر الله الأكبر ويا عيد أوليائه. السلام عليك يا أكرم مصحوبٍ من الأوقات, ويا خير شهر في الأيام والساعات. السلام عليك من شهرٍ قربت فيه الآمال, ونشرت فيه الأعمال. السلام عليك من قرينٍ جلَّ قدره موجوداً, وأفجع فقده مفقوداً. السلام عليك من أليفٍ آنس مقبلاً فسرّ، وأوحش منقضياً فمضَّ. السلام عليك من مجاورٍ رقت فيه القلوب, وقلت فيه الذنوب. السلام عليك من ناصرٍ أعان على الشيطان, وصاحبٍ سهَّل سبل الإحسان. السلام عليك ما أكثر عتقاء الله فيك، وما أسعد من رعى حرمتك بك. السلام عليك ما كان أمحاك للذنوب, وأسترك لأنواع العيوب. السلام عليك ما كان أطولك على المجرمين, وأهيبك في صدور المؤمنين. السلام عليك من شهرٍ لا تنافسه الأيام. السلام عليك من شهرٍ هو من كلِّ أمرٍ سلام. السلام عليك غيرَ كريه المصاحبة ولا ذميم الملابسة. السلام عليك كما وفدت علينا بالبركات وغسلت عَنّاَ دنس الخطيئات… إلى أن يقول: السلام عليك وعلى ليلة القدر التي هي خيرٌ من ألف شهر[[531]]. إلى آخر كلامه زاد الله عليه من تحيته وسلامه. 
ودعنا أيضاً نسمع جانباً من خطبة رسول الله  حين أقبل شهر رمضان: أيها الناس إنه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة. شهرٌ هو عند الله أفضل الشهور, وأيامه أفضل الأيام, ولياليه أفضل الليالي, وساعاته أفضل الساعات. وهو شهرٌ دعيتم فيه إلى ضيافة الله, وجعلتم فيه من أهل كرامة الله. أنفاسكم فيه تسبيحٌ, ونومكم فيه عبادةٌ, وعملكم فيه مقبولٌ, ودعاؤكم فيه مستجاب. 
فسلوا الله ربكم بنياتٍ صادقة, وقلوبٍ طاهرة, أن يوفقكم لصيامه وقيامه وتلاوة كتابه. فإنَّ الشقيَّ من حرم غفران الله في هذا الشهر العظيم[[532]].
ومنها: أيها الناس, إنَّ أبواب الجنان في هذا الشهر مفتحة، فسلو ربكم أن لا يغلقها عليكم. وأبواب النيران مغلقةٌ فسلوا ربكم أن لا يفتحها عليكم. والشياطين مغلولةٌ، فسلوا ربكم أن لا يسلطها عليكم.. إلخ[[533]].
 
ويبقى الكلام حول ذلك عن أمرين: 
الأمر الأول: إنه بم اكتسب شهر رمضان هذه الأهمية، وما فرقه عن باقي الأشهر والأزمان؟.
 
ويمكن الجواب على ذلك على عدة مستويات:
المستوى الأول: إنه لا شكَّ في أفضلية بعض الأوقات على بعضٍ لدى المسلمين جميعاً كليلة القدر, بل بنظر الأديان كلها، حسب مناسباتهم الدينية.
فما قالوه بالنسبة إلى سائر المناسبات، نقوله بالنسبة إلى شهر رمضان. فإذا كان السائل في هذا المستوى واحداً منهم، كفى النقض عليه بمناسباته نفسه. 
المستوى الثاني: إنَّ الأهمية ليست للزمان، بل للمواهب الإلهية التي تحصل فيه كالرحمة والمغفرة والبركة وغلِّ الشياطين وفتح أبواب الجنان ونحو ذلك.
المستوى الثالث: قد علم الله سبحانه بحصول الذنوب للبشر، وأحبَّ منهم حصول الإنابة والتوبة والإستغفار. فمن هذه الناحية فتح لهم أبواباً عديدةً وفرصاً كثيرةً لإنجاز ذلك، بغضِّ النظر عن إمكان ذلك باستمرار. 
فقد أعدَّ عدداً من الأماكن, وعدداً من الأزمان, وعدداً من الحالات, لأجل ذلك، فالأماكن كالمساجد والعتبات المقدسة، والأزمان كشهر رمضان وليلة القدر وعيدي الأضحى والفطر، والحالات كالبدء بتمجيد الله سبحانه والصلاة على النبيِّ وآله وغير ذلك. 
وحيث لا يكون هنالك تميزٌ عقليٌّ واقعيٌّ بين الأماكن والأزمان. إذن، فذلك يعود مباشرةً إلى الإرادة الإلهية نفسها، فإنها اختارت أن يكون العطاء في مثل هذه المناسبات ـ لو صحَِّ التعبير ـ وكذلك مقدمات العطاء من تمجيدٍ ودعاءٍ واستغفار. 
وإذا وصلت الدرجة إلى الإرادة والحكمة الإلهية نفسها، فقد انسدَّ السؤال، لأننا لا نعلم بالواقعيات التي تأخذها الحكمة الإلهية بنظر الإعتبار. 
بل يكفي ـ منطقياً ـ أن يكون ذلك انتقاءاً عشوائياً، بين الأماكن والأزمان لمجرد إعطاء فرصةٍ محددةٍ لتوفير العطاء والرحمة التي يريدها الله سبحانه لخلقه. 
الأمر الثاني: إنَّ الشهر عبارةٌ عن زمان. والزمان لا يتصف بوجودٍ ثابت، بل هو متصرمٌ ومتصرفٌ باستمرار. فليس له حديةٌ وشخصيةٌ لكي يتصف بالأهمية أو لا يتصف، وليس للفرد منه إلا لحظة الحاضر، وهي من الضآلة بحيث لا قيمة لها تجاه الماضي والمستقبل.
 ويمكن الجواب على ذلك على عدة مستويات:
المستوى الأول: إنَّ الزمان وإن كان متصرماً في الحقيقة، إلا أنه لا شكَّ أنَّ له تحديداً وتشخيصاً عرفياً واضحاً، ولذا قسموا الزمن إلى أيامٍ وأشهرٍ وسنين, وغيرها. الأمر الذي يبرهن على أنَّ العرف يرى للأحداث الزمانية نحواً من الوجود والتحديد.
فإذا علمنا أنَّ الله سبحانه تكلم مع الناس بلغتهم العرفية, لأنها هي اللغة الرئيسية التي يفهمونها ويهضمونها. إذن، فبمستطاع الشريعة أن تذكر أيَّ زمانٍ معينٍ عرفاً، بمقدار تحديده العرفيّ، وتجعله موضوعاً لبعض الأحكام، كجعل شهر رمضان زماناً لوجوب الصوم أو ليلة القدر موضوعاً لاستحباب الإحياء، وهو السهر إلى الفجر. وهكذا. 
المستوى الثاني: إننا وإن كنا نرى الزمان متصرماً, إلا أنَّ هذه النظرة ناشئةٌ حتماً من كوننا داخلين تحت حكم هذا الزمان ومشمولين له. وأما إذا كنا صاعدين فوق مرتبة الزمان، فسوف نجد ـ كما قال الفلاسفة ـ: أنَّ هناك وحدةً حقيقيةً ومتكاملةً بين الماضي والحاضر والمستقبل، وأنَّ الماضي ليس مجهولاً لزواله، وأنَّ المستقبل ليس مجهولاً لعدم وصوله, بل كلُّ الأزمنة موجودةٌ بشكلٍ مشتركٍ ومجتمعٌ في لوح الأبدية والأزلية. 
وبهذا النظر يكون لأيَّة قطعةٍ من الزمن شكلٌ من أشكال الثبات والتحديد، لأننا عندئذٍ سوف لن نرى الزمن متصرماً، كما نراه الآن. 
فإذا كانت أيَّة قطعةٍ زمنيةٍ ثابتةٍ هناك، أمكن جعلها موضوعاً لبعض الأحكام الشرعية، ولا شكَّ أنَّ الشريعة نزلت من هناك، من الأعلى، ذلك العالم الذي يخلو بطبعه من الأزمنة الثلاثة، فناسب أن يكون فيها هذا النحو من الأحكام. 
المستوى الثالث: إنَّ المأمور به في الشريعة خلال فترات الزمان، قصرت أم طالت، إنما هي أعمالٌ محددة، والأعمال البشرية كلها متصرمةٌ كالزمان، وغير قارَّةٍ أو ثابتةٍ بطبعها, بل هي زمانيةٌ بالذات، فهي تتصرم بتصرم الزمان. 
إذن، فمن المناسب أن يكون المأمور به فعلاً زمانياً في حقبةٍ زمانية, كالصوم في شهر رمضان, أو الإحياء في السهر في ليلة القدر, أو الصلاة عند الزوال أو عند الفجر، وهكذا.
نعم، لو كان التكليف الشرعيُّ متعلقاً بأمر قارَّ[[534]]، في ظرفٍ منصرم[[535]]. أو بشيءٍ متصرمٍ في ظرفٍ قارّ، كان ذلك محالاً. إلا أنَّ الأمر ليس كذلك، بل التكليف متعلقٌ بأمرٍ متصرمٍ في ظرفٍ متصرم، مناسبٍ له.