بعد أن قررت أمريكا غلق أبواب وشبابيك سفارتها في بغداد، خرج علينا الناطق باسم البنتاغون ليقول: " لا تشغلوا بالكم.. وأتمنى على العراقيين أن لا يقلقوا إنّ هذا مجرد إجراء احترازي.. فعند الحاجة سنعرف كيف نحمي مصالحنا ".. قالها الناطق بكل بساطة وهو يرد على أسئلة عن تأثير غلق السفارة على الأوضاع الأمنية في العراق.. وقبل أشهر معدودات سمعنا، وزير الخارجية جون كيري يشرح لنا معنى الديمقراطية التي علينا أن نتعلمها والتي تتلخص حسب قوله: بشمولية المشاركة والإجماع، وإن الذين يشعرون بالغضب يجب أن لا يتخلـَّوا عن النظام أو ينسحبوا منه". ولم يُجبنا السيد كيري في حينها عن معنى المشاركة التي يتحدث عنها! وهل يعتقد ان الوضع في العراق هو النموذج الديمقراطي الذي يجب أن يسود في المنطقة، والذي لا تزال أمريكا ملتزمة بدعمه والدليل أنها مع أول تهديد جدّي من القاعدة، لملمت أغراضها وقررت ركوب سفينة النجاة؟! والآن دعوني أسال سؤالا مهماً: هل الأمريكان قلقون مما يجري في العراق؟ وهم يعلمون جيداً ان ما يجري من خراب على الأرض كان بسبب مزاجية سكان البيت الأبيض. قبل أيام سألت أحد البرلمانيين: ما تفسيرك للخطوة الأمريكية، وهل هي سوء تقدير من إدارة أوباما أم شيء مخطط له بعناية فائقة؟ هذا البرلماني الذي أزعم انه على اطلاع بدهاليز السياسة قال: إنه يعتقد إن الأمر أشبه بلغز، لايستطيع أحد حل رموزه.. فكرت في إجابته وراجعت تداعيات ما حدث، فوجدت أن الأمر اكبر من لعبة ألغاز يلعبها معنا ساكنو البيت الأبيض.. فأمريكا ما زالت ترى في ما يجري في العراق ، لعبة لا تحتاج سوى تغيير في الوجوه والأقنعة، وترى أن هذا منتهى ما يمكن الحصول عليه في دولة كانت من قبل تحلم بالقليل جدا من الديمقراطية... فأمريكا تبذل جهدها من أجل هندسة النظام السياسي في العراق وفق شركة حكم قبلية يراها الساكنون في البيت الأبيض، منتهى التغيير وأقصى ما يحلم بـه العراقيون، بالمقابل حكومة الشراكة الوطنية ترى في الخطوة الأمريكية نموذجاً يجب أن يُقتدى به ، فقررت ان تغلق المنطقة الخضراء، وان تحيطها بسبعة سواتر خوفاً من عيون هذا الشعب الحاسد والحاقد.. فيما قواتنا الأمنية تعتقد أنها بهذه الخطوة ستعبر نفق الخراب الأمني، ولا يهم ان تصاب حياة أهالي العاصمة بالشلل! فالناس مكتوب عليهم ان يعيشوا عصر قرارات الدائرة الضيقة، فلا أحد يعرف ماذا يجري، ولماذا حزمت أمريكا أمتعتها! ربما لا يتذكر المسؤولون الأمريكان وهم يجدون الأعذار لقرار غلق السفارة من انهم يرتبطون مع هذه البلاد باتفاقية أمنية ينص أحد بنودها على " مساعدة العراقيين في مساعيهم بمكافحة جميع المجموعات الإرهابية وفي مقدمتها تنظيم القاعدة وكل المجاميع الخارجة على القانون بغض النظر عن انتماءاتها والقضاء على شبكاتها اللوجستية ومصادر تمويلها وإلحاق الهزيمة بها واجتثاثها من العراق " لكن يبدو ان الأمريكان ليسوا قلقين على العراق، الذي يفترض انه أحد ممرات مصالحهم في المنطقة، هم قلقون على حكومة الشراكة التي يرونها النموذج الأمثل، ويتصرفون كما كانوا في زمن الدكتاتوريات العسكرية.. فالذي يعنيهم هو الجالس على الكرسي.. ومدى قدرته على ضمان فاعلية الدور الأمريكي. وبرغم أن هناك أسئلة تدور في كواليس أصحاب القرار الأمريكي من عينة: ماذا نعمل؟ إلا ان الواقع يؤكد ان الدائرة الضيقة من أصحاب القرار الأمريكي لم يعد يهمهم ما يجري في العراق، ما دام الجالس على كرسي الحكم يدير البلاد من خلال نظرية التحالف الستراتيجي، وهو ما أصر على أن يذكرنا به السيد كيري من ان "الولايات المتحدة الأمريكية مستمرة باحترام دورها الداعم للعراق وفقا لاتفاقية الإطار الستراتيجي"، والإطار الستراتيجي هنا، هو ان يبقى كل في موقعه والاكتفاء بالخطب والبيانات.. حيث تتصور الإدارة الأمريكية ان هذا هو المبتغى والمنال عند العراقيين، وان كل شيء تمام، فالأمر أولا وأخيرا مجرد تجديد وجوه والإيحاء للناس البسطاء أننا أصبحنا بلــداً ديمقراطياً لمجرد أن صناديق الانتخابات وُزِّعت في المحافظات! كنت أتمنى على ساستنا الأفاضل أن يواجهوا الأمريكان بالحقائق وان يقولوا لهم إن بلداننا ليست حقول تجارب، وان العراقيين لم يعودوا يقتنعون بحفلات تنكرية لتنصيب أوصياء ومتسلطين.. فالناس لا تريد استبدال نظام دكتاتوري بنظام متسلـِّط يتخذ من الديمقراطية ستاراً لقمع الآخرين وإقصائهم. اليوم حين يعتقد ساسة العراق أن أميركا يمكن أن تعترف بأنها أخطأت وأساءت التقدير، فذلك إنما دفاع عن مشاريع سياسية غير ناضجة، كما أنه يعني أن الكوارث قابلة للتكرار وخصوصا أنها صارت تستنسخ نفسها يوما بعد آخر. أيها الساسة لن تجدوا أوباما في العراق بعد الآن على الأقل. الموجود رجلٌ خائفٌ ومتردد ، يتم ابتزازه بمنتهى البساطة، فيحزم حقائبه ويهرب!
|