العشيرة الثائرة عندما فقدت البوصلة ! |
في عشيرة تتكون من ألف فرد، كان "شيخ العشيرة" المسيطر على مستودعات الطعام، يحرمُ أفرادَ عشيرته من الطعام المناسب والكافي.. وفي يوم طفح فيه الكيل وبلغ السيل زُباه، رفعت قِلَّةٌ من شباب العشيرة في وجه شيخها شعار.. * "العشيرة تريد أن تأكلَ الطعام".. شيخ العشيرة الذكي، أدرك أن هذا الشعار لو بقيَ مرفوعا على هذا النحو، دون أن يتحرك ويتصرف، فإنه سيجرجرُ إليه معظمَ أفراد العشيرة الآخرين الذين ما يزالون صامتين يتفرجون، ما سيجبره على تغيير سياساته، وسيضطره إلى تأمين الطعام بالطريقة المطلوبة للجميع، وهو الأمر الذي سيفقدُه السيطرةَ على عشيرته بفقدانه السيطرة على مستودعات طعامهم.. فماذا فعل؟! أبدى استعداده لتأمين الطعام استجابة لمطالب تلك القلة من الشباب، لكنه طرح عليهم وعلى العشيرة العرض التالي: فماذا حصل داخل مجموعة الشباب الثائرة، وداخل العشيرة الجائعة (؟!) قبل بعض الشباب بالعرض وانضم إليهم جزء من أفراد العشيرة الصامتين، ورفعوا شعار.. * "العشيرة تريد أن تأكل الخبز".. وبقيت قلَّة من الشباب الأوائل رافضة للعرض، وأصرت على أن تأكل العشيرة كلَّ ما تحتاجه من الطعام، لأن شيخ العشيرة في رأيهم قادر على تأمين كل أنواع الطعام، ولأن مستودعات العشيرة تحتوي على ما يكفي ويزيد، فاستمروا بسبب ذلك في رفع شعار.. * "العشيرة تريد أن تأكل الطعام".. في ظل هذا الانقسام والتشتت، توجَّه شيخ العشيرة إلى المكتفين بالخبز، وطرح عليهم العرض التالي: - "أنا لا أستطيع أن أؤمن لكم في ظل ظروف الأزمة التي تعرفونها، سوى "الخبز الأسود"، وليس كل أنواع الخبز".. * "العشيرة تريد أن تأكل الخبز الأسود".. وبعضهم رفض العرض، وأصرَّ على أن يأكل كلَّ أنواع الخبز، لأن شيخ العشيرة في رأيهم قادر على تأمين كلِّ أنواع الخبز، فاستمروا في رفع شعار.. * "العشيرة تريد أن تأكلَ الخبز".. فأصبحت العشيرة منقسمة إلى ثلاث مجموعات، ترفع كلُّ مجموعة منها شعارا مختلفا عن شعار الأخرى، وهي.. وهي مجموعة صغيرة، ويتناقص عدد أفرادها لصالح المجموعات التالية لها، مع كل عرض يتقدم به شيخ العشيرة.. وهي مجموعة أوسع من المجموعة السابقة، وسيتناقص عدد أفرادها لصالح ما يليها مع كلِّ عرض يتقدم به شيخ العشيرة.. * "الأسرة تريد أن تأكل الخبز الأسود".. وهي أوسع المجموعات الثلاث، وسيتناقص عدد أفرادها لصالح المجموعات التالية لها، مع كلِّ عرض يتقدم به شيخ العشيرة.. ألقى شيخ العشيرة نظرة فاحصة إلى عشيرته، فوجد أن بالإمكان الاستمرار في هذه اللعبة، وأن الوقت لم يحن بعد للتوقف عن استغلال حماقة أفراد العشيرة ورعونتهم وغبائهم، لحماية نفسه من مطالب هؤلاء الشباب الرواد، فتوجه إلى المكتفين بالخبز الأسود، وطرح عليهم العرض التالي: - "أنا لا أستطيع أن أؤمِّنَ لكم في ظل ظروف الأزمة الحالية سوى "الخبز الأسود البايت".. فما الذي حصل في داخل هذه المجموعة وداخل العشيرة من ثمَّ (؟!) بعض أفراد المجموعة قبلوا بالعرض، وانضم إليهم بعض أفراد المجموعات السابقة، بالإضافة إلى عدد كبير من أفراد العشيرة الذين كانوا صامتين حتى الآن، ورفعوا جميعا شعار.. * "الأسرة تريد أن تأكل الخبز الأسود البايت".. وبعضهم رفض العرض، وأصرَّ على أن يأكل كلَّ أنواع الخبز الأسود، لأن شيخ العشيرة في رأيهم قادر على تأمين كلِّ أنواع هذا الخبز المتوفر في المستودعات، فاستمروا في رفع شعار.. * "الأسرة تريد أن تأكل الخبز الأسود".. ثم التفت شيخ العشيرة مجددا إلى المكتفين بالخبز الأسود البايت من أفراد عشيرته الحمقاء، وطرح عليهم العرض التالي: وهي بالمناسبة كمية أقل من التي يحصل عليها كلُّ فردٍ حاليا وقبل التمرد، ولكن عدم استخدام الموازين الدقيقة سابقا كان يحول دون معرفة الكميات.. عاد هؤلاء لينقسموا مجددا إلى فئتين، قبلت إحداهما بالعرض بعد أن انضم إليها عديدون من جميع الفئات الأخرى ومن الصامتين، ورفعت شعار.. * "العشيرة تريد أن تأكل ربع حاجتها من الخبز الأسود البايت".. فيما رفضت الفئة الأخرى هذا العرض، وأصرت على رفع شعارها السابق نفسه.. * "العشيرة تريد أن تأكل الخبز الأسود البايت".. وفي هذه المرحلة أصبحت العشيرة منقسمة إلى خمس مجموعات مختلفة المطالب ومختلفة الشعارات ومختلفة الأعداد بالتالي هي.. * "العشيرة تريد أن تأكل الطعام".. وتلك المجموعات تختلف في جذرية مطالبها هبوطا، وفي حدة شعارتها تنازلا، وفي تعداد أفرادها كثرة، كلما نزلنا من الأعلى إلى الأسفل.. ومع أن شيخ العشيرة كان قادرا على الاستمرار في تشتيت وتشظية العشيرة التي تعتبر كلها منكوبة بالجوع الذي فرضه عليها، إلا أنه اكتفى بهذا القدر من التشظية، لأنه رآه كافيا لأن لا يلتزم لأيٍّ كان بأيِّ شيء، ولأن يُبْقي على الجميع جياعا دون المساس بشرعية شيخَته للعشيرة بشكلها القائم، بل ولأن يتراجع حتى عما كان يقدمه لهم قبل تجرؤهم بالتمرد عليه.. فماذا فعل في ظل هذا الواقع؟! اتجه إلى المجموعة الخامسة، وبدأ يفاوضها على ترتيب الأمور في المرحلة القادمة، كي يحصل كلُّ فرد من أفراد العشيرة على "ربع حاجته من الخبز الأسود البايت".. فثارت ثائرة المجموعات الأربع الأخرى، وبدأت تتهم بعضها بعضا، واختلط الحابل بالنابل، وتفشت سياسة التخوين، وبدأ الكثيرون من هذه المجموعة أو من تلك يحاولون تغيير مواقفهم بشكلٍ يحفظ ماء الوجه من جهة، ولا يجعلهم محرومين من بركات "ربع الحاجة من الخبز الأسود البايت" المتاحة من جهة أخرى، وانتشرت سياسات التبرير هنا وهناك، وضاعت البوصلة التي بدأت واضحة بتحديد مطلب الشباب الرواد بشعار "العشيرة تريد أن تأكل الطعام"، لينقسم أفرادها إلى مجموعات غير متجانسة، ولا موَحَّدَة المطالب، فأصبح الجميع غير قادرين على فرض أيٍّ من مطالبهم على شيخ العشيرة، إلى درجة أن ظهر "ربع الحاجة من الخبز الأسود البايت" الذي سيقدم لهم بالميزان، وهو أقل مما كانوا يحصلون عليه، وكأنه في ذاته مِنَّةً وأعطية ومكرمة من الشيخ، أطال الله في عمره.. وضاعت العشيرة.. وبقيت مستودعات الشيخ مغلقة في وجه أبنائها.. وحتى ربع الحاجة هذا غدا فتاتا نجح الشيخ في جعل أفراد عشيرته يقتتلون عليه.. وكل ربع قرن من مكرمات وأعطيات ونِعَمِ وعطايا "الشيخ"، والعشيرة وكل أفراد العشيرة بمهانة وذل وضياع.. |