التراث الإنساني الخالد لعلي بن أبي طالب في مصر. |
العراق تايمز: كتب المفكر الاسلامي الشيخ عباس الزيدي، مصر اليوم تتحرك باتجاه نظام حكم سيكون مساهمة فعالة في نظام الحكم العادل في المنطقة برمتها، وبالتأكيد لن يتحقق هذا بين ليلة وضحاها، فنحن بأَمسِّ الحاجة الى جهود المفكرين والسياسيين والشباب المخلصين لتحقيق ذلك، ونحتاج الى المزيد من الحوار بين كافة الأطراف المتعقلة التي لا تتبع أجندات معينة. ومن أهم ركائز هذا الحكم هي محاولة التوفيق بين النص الإسلامي وما وصل إليه العالم من تطور وتغيرات جوهرية، لأننا لا يمكن أن نفصل بين موروثنا الديني وبين أسلوب الحكم، وبصرف النظر عن النقاشات الدائرة بين دعاة المدنية ودعاة الحكم الإسلامي، الذي قد نجد أنه فصل نشأ من سوء فهم النص وهل هو مطلق أو مقيد بحدث ما أو زمن ما، والجدال حول من يمتلك الصلاحية في التشريع في حال كون النص ليس مطلقاً، واليوم نقف بين يدي حاكم استثنائي في التاريخ الإسلامي بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وأخص من تراثه الفكري عهده لواليه على مصر مالك بن الحارث الأشتر النخعي الذي اغتاله معاوية بن أبي سفيان بالسم في رحلة ذهابه من العراق الى مصر في القلزم، وضريحه يعرف عند المصريين بالعجمي، وهذا العهد من اهم الوثائق الإسلامية عن أسلوب الحكم، وليس من المصادفة أن يكون هذا العهد أصدره أمير المؤمنين للشعب المصري وأخيراً تفضل علينا بشرحه مختصراً ضمن كتاب (نهج البلاغة) مصري من عمالقة المفكرين والمصلحين الإسلاميين مفتي الديار المصرية الشيخ محمد عبده (رحمه الله تعالى). ويبدو أننا آخر من يلتفت الى الكنوز الفكرية التي نمتلكها، ففي عام 2002 أصدرت الأمم المتحدة في تقريرها الدولي وبالتحديد من برنامج التنمية الإنمائي وحقوق الإنسان، وقد صدر التقرير باللغة الإنكليزية بـ 160 صفحة، وقد اتخذ هذا التقرير شخصية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كشخصية حضارية متميزة، ومثلاً أعلى في إشاعة العدل والرأي الآخر، واحترام حقوق الإنسان للمسلمين وغير المسلمين، وتطوير المعرفة والعلوم وتأسيس الدولة على أسس التسامح والخير والتعددية، وعدم خنق الحريات العامة. وقد تضمن التقرير مقتطفات من وصايا أمير المؤمنين (عليه السلام) الموجودة في نهج البلاغة التي يوصي بها عماله وقادة جنده، وشدد التقرير على أن تأخذ الدول العربية بهذه الوصايا في برامجها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية. وقد تم توزيع التقرير على جميع دول الامم المتحدة حيث اشتمل على منهجيته في السياسة والحكم وإدارة البلاد والمشورة بين الحاكم والمحكوم، ومحاربة الفساد الإداري والمالي، وتحقيق مصالح الناس، وعدم الاعتداء على حقوقهم المشروعة. وتضمن التقرير الدولي أيضاً شروط الإمام للحاكم الصالح، التي وردت في نهج البلاغة وفيها يقول : ((إن من نصب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، فمعلم نفسه ومؤدبها أحقُّ بالإجلال من معلم الناس)). واقتبس التقرير مقاطع من وصاياه لعامله على مصر مالك الأشتر التي يؤكد فيها على استصلاح الأراضي والتنمية، يقول : ((وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج لأن ذلك لا يُدرك إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلاً)). ومما جاء في التقرير الشروط التي وضعها الإمام لتعيين الحكام في البلاد : ((ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور، ولا تمحكه الخصومة، ولا يتمادى في الزلة، ولا يحصر في الفيء الى الحق إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه، وأوقفهم في الشبهات، وآخذهم في الحجج، وأقلهم تبرماً بنراجعة الخصم، وأصبرهم على تكشف الأمور، وأصرمهم عند اتضاح الحكم، ممن لا يزدهيه غطراء، ولا يستمليه إغراء، وأولئك قليلون، ثم أكثر تعاهد قضائه، وأفسح له في البذل ما يزيل علته، وتقل معه حاجته الى الناس، وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك، فانظر في ذلك نظراً بليغاً)). أنظر كتاب (الإمام علي رائد العدالة الإجتماعية والسياسية، لمؤلفه قاسم خضير عباس). ونقف أمام مادة أخرى في هذا العهد، قوله (عليه السلام) : ((وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم. ولا تكونن عليهم سَبُعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، فإنك فوقهم، ووالي الأمر عليك فوقك، والله فوق من ولاك......). شرح نهج البلاغة، محمد عبده، 3 : 84)). أنظر الى تصنيفه للخلق الى (أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق)، أي مساوٍ لك لا تتفضل عليه بشيء من الإنسانية، وكأن أمير المؤمنين يطلع علينا اليوم تحديداً ليحدد لنا كيفية الحكم بالمساواة بين المجتمع متعدد الأديان والطوائف، ونحن في مصر أكثر حاجة لمثل هذه التوصية الواجبة للحاكم، فالمجتمع المصري عانى من التفريق بين طوائفه خاصة في العام الإخواني البائد، حيث عانى الأقباط والصوفية والشيعة والليبراليون، وهنا علينا أن نتوجه بهذه الكلمات العظيمة الى دعاة الحكم الإسلامي من الإخوان والسلفية، أليس علي بن أبي طالب خليفة وصحابي يكون ما صدر منه حجة باعتباره من أقرب الصحابة الى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولم يكن ليشرع خلاف ما في كتاب الله وسنة نبيه الكريم، نعم توجد سابقة له حينما رفض الإملاء في تطبيق سيرة الشيخين أبي بكر وعمر، لأنه يرى خلاف ما يرون في أسلوب الحكم، ومن أهم ما خالف به سيرتهما في المساواة في توزيع الحقوق من بيت المال، فمن المعروف أن سياسة عمر بن الخطاب كانت مبنية على أساس التفضيل لطبقة على أخرى، فقد كان يفضل بني هاشم ثم قريش ثم العرب ثم غير العرب من الموالي والعجم، فرفض علي هذا المبدأ وسار بمبدأ المساواة بين الجميع، وهذا أحد أسباب سخط عليه القوم منه، حيث تعودوا على أن يكونوا مفضلين على غيرهم في عهود الخلفاء الثلاثة السابقين، وجاء في كتاب عن كتاب الغارات للثقفي ((إن امرأتين أتتا علياً "عليه السلام" عند القسمة إحداهما من العرب والأخرى من الموالي، فأعطى كل واحدة خمسة وعشرين درهماً وكراً من طعام، فقالت العربية : يا أمير المؤمنين، إني امرأة من العرب وهذه امرأة من العجم. فقال علي "عليه السلام" : والله لا أجد لبني إسماعيل في هذا الفيء فضلاً على بني إسحاق)). وهذه جملة من الروايات التي تشير الى رفض علي بن أبي طالب للسير بسيرة الشيخين : وروى أحمد بن حنبل في المسند 1 : 75، والهيثمي في مجمع الزوائد 5 : 185. وابن حجر في فتح الباري 13 : 170. عن عاصم عن أبي وائل قال قلت لعبد الرحمن بن عوف كيف بايعتم عثمان وتركتم عليا رضي الله عنه قال ما ذنبي قد بدأت بعلي فقلت أبايعك على كتاب الله وسنة رسوله وسيرة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما قال فقال فيما استطعت قال ثم عرضتها على عثمان رضي الله عنه فقبلها. وروى ابن حجر في فتح الباري 13 : 171، عن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة عن أبيه قال كنت اعلم الناس بأمر الشورى لأني كنت رسول عبد الرحمن بن عوف فذكر القصة وفي آخره فقال هل أنت يا علي مبايعي ان وليتك هذا الامر على سنة الله وسنة رسوله وسنة الماضين قبل قال لا ولكن على طاقتي فأعادها ثلاثاً فقال عثمان أنا يا أبا محمد أبايعك على ذلك قالها ثلاثاً فقام عبد الرحمن وأعتم ولبس السيف فدخل المسجد ثم رقى المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم أشار إلى عثمان فبايعه. وفي رواية الطبري على كتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده فقال أرجو أن أفعل وأعمل بمبلغ علمي وطاقتي . وفي رواية أخرى للطبري قال اللهم لا ولكن على جهدي من ذلك وطاقتي. وفي شرح النهج للمعتزلي : 1 : 188 : ( فبدأ بعلي وقال له : أبايعك على كتاب الله وسنة رسول الله وسيرة الشيخين أبي بكر وعمر . فقال : بل على كتاب الله وسنة رسوله واجتهاد رأيي . فعدل عنه إلى عثمان فعرض ذلك عليه فقال : نعم، فعاد إلى علي فأعاد قوله، فعل ذلك عبد الرحمن ثلاثاً، فلما رأى أن علياً غير راجع عما قاله وأن عثمان ينعم له بالإجابة، صفق على يد عثمان وقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين، فيقال : إن علياً قال له : والله ما فعلتها إلا لأنك رجوت منه ما رجا صاحبكما من صاحبه، دق الله بينكما عطر منشم. قيل : ففسد بعد ذلك بين عثمان وعبد الرحمن، فلم يكلم أحدهما صاحبه حتى مات عبد الرحمن). محمد عبده، شرح النهج 1 : 34، فأقبل عبد الرحمن على علي وقال عليك عهد الله وميثاقه لتعملن بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده فقال علي أرجو أن أفعل وأعمل على مبلغ علمي وطاقتي. وكان بإمكان علي بن أبي طالب أن يقول نعم على سيرة الشيخين، ولكنه بذلك يخالف مبادئه وأسلوبه الذي يؤمن به في الحكم، وهو ما عبَّر عنه المفكر المصري الدكتور سيد القمني في مقال له بعنوان (السياسة والدين في خلافة الراشدين) بتاريخ 3 / 11 / 2012: ((موقف آخر بقدر ما هو مدهش قدر ما هو الوضوح والشفافية ذاتها مقابل الدهاء والانتهازية ذاتها، الإمام علي بن ابي طالب أمام لجنة الــ 6 التى شكلها عمر وهو يحتضر، رفض أن يستلم الحكم المشروط بالعمل بكتاب الله وسنة رسوله، ووضع لنفسه شرطاً مخالفاً هو أنه سيتبع رأيه ويحدد مواقفه حسب المستجدات، ولأن الإمام علي هو من يعلم أن “القرآن لا ينطق بلسان ولكن ينطق به الرجال” ، لذلك أمر رجاله ألا ينخدعوا بمن رفعوا لهم المصاحف على الرماح، “وأنهم ما رفعوها لكم إلا مكراً وخديعة” وفى المرتين خسر الإمام، خسر حظه فى الخلافة بقبول عثمان الخلافة وأنه سيلتزم الكتاب والسنة وحدهما. رغم أن عثمان بدوره كان يعلم إشكالية الالتزام بالكتاب والسنة فى شئون السياسة، لكنه قبل الشروط وهو عالم أنه سيكسرها، وخسرها الإمام لشفافيته وصدقه مع الدين والسياسة، ولقوله الواضح لكل الصحابة آنذاك أنه الصواب وأن الشأن شأن سياسة لا قرآن ولا سُنة، لكنهم فضلوا الحلال والحرام، حتى انهزم رجاله أمام جيش معاوية برفع المصحف)). موقع أعمال الدكتور سيد القمني. وهنا أحب أن أعقب على ما قاله القمني بخصوص الكتاب والسنة، فإن من المؤكد عندنا أن الإمام له أن يشرع أو يوقف تشريعاً حسب ما يراه من المصلحة لتسيير شؤون المجتمع، وليس معنى ذلك مخالفة للكتاب والسنة، فعلي بن أبي طالب أعرف الخلق بالكتاب والسنة، وهو يعرف موارد الاطلاق والتقييد، ورفضه لما أملاه عبد الرحمن بن عوف من جهتين الأولى : أن الكتاب والسنة يفهمهما علي بخلاف ما يفهمهما عبد الرحمن بن عوف وجملة من الصحابة، كما أنه يعرف أن الكثير من الأحكام إنما هي مؤقتة ويعلم أن صلاحياته أن يعمل حسب ما يراه وليس حسب ما رأى الشيخان من قبل، والثانية : أنه معترض جملة وتفصيلاً على الكثير من أحكام الشيخين، ومنها كما ذكرت مبدأ المساواة ليس في توزيع الأموال فحسب وإنما في موارد كثيرة لا يتسع المجال لذكرها، وكذلك رفض إبقاء عدد من السياسات السابقة المبتنية على أساس مراعاة بعض الأطراف، كما حصل مع رفضه إبقاء معاوية بن أبي سفيان على ولاية الشام، ونعلم حسب ضرورات التاريخ أن آل أبي سفيان تملكوا الشام منذ اليوم الأول لتحرير الشام من الاحتلال البيزنطي، فقد ولى الخليفة الأول يزيد بن أبي سفيان لإسكات وإرضاء أبي سفيان ولأمور أخرى، وبعد موت يزيد ولى عمر أخاه معاوية بن أبي سفيان الذي استقل تماماً بالشام واتخذها حصناً ومملكة استطاع من خلالها شن الحروب على الخليفة الشرعي علي بن أبي طالب بمساندة بيزنطية سوف نأتي على تفاصيلها في فرصة قريبة إن شاء الله تعالى. وقد ذكر بعض المتنطعين أن علي بن أبي طالب لا يجيد السياسة لجملة من القرارات اتخذها، ومنها ضرورة الإبقاء على معاوية لولاية الشام ولو بشكل مؤقت، ولكنه رفض بشكل قطعي، وقد أجاب وأجاد العملاق عباس محمود العقاد في كتابه (عبقرية الإمام علي). على كل الإشكاليات التي أوردها هؤلاء، وأن ما فعله الإمام متفق تماماً مع المبادئ الإسلامية من ناحية ومع السياسة الصحيحة. وهنا لا بد أن نعلم أن علي بن أبي طالب هو أول خليفة في تاريخ الإسلام تمت بيعته بالاقتراع العام وبانتخاب ممثلي البلاد الإسلامية من مصر والعراق والحجاز، وكانت تلك البلدان موالية له ممتنة لحكمه العادل حتى قضى شهيداً لا يمتلك غير قطيفته التي جاء بها من المدينة كما روى الشامي : ((وكان بالخورنق يرعد تحت قطيفة، فقيل له : إن الله قد جعل لك ولأهل بيتك في هذا المال حظاً وأنت تصنع بنفسك ما تصنع، فقال : والله، ما أرزأكم من مالكم شيئاً إنها لقطيفتي التي خرجت بها من المدينة. ورُئي وهو يبيع سيفاً له في السوق، ويقول : من يشتري هذا السيف، فوالذي خلق الحبة وبرأ النسمة لطالما كشفت به الكرب عن وجه رسول الله "صلى الله عليه وسلم" لو كان عندي ثمن إزار ما بعته قط، وأنشد يقول : وقد تجوح الحاجات يا أم مالك كرائم من رب يهين صنين)). الصالحي الشامي، سبل الهدى والرشاد، 11 : 301. تحقيق الشيخ عادل أحمد عبد الموجود، الشيخ علي محمد معوض، دار الكتب العلمية بيروت 1993. وأخيراً لا بد لمفكري مصر وقادتها أن يولوا عهد الإمام لمالك الأشتر عنايتهم ليلجموا به أفواه المتنطعين من دعاة الإسلام الذين لا زالوا ينهلون من مورد معاوية الانتهازي وابن تيمية المختل وغيرهما. |