إلى الآباء والأمهات

عبد الله بدر اسكندر






الأسرة هي النواة الأولى للمجتمع وهي الرافد الذي يغذي الحياة ويمدها بالاستمرارية المتمثلة بالأجيال التي تتعاقب فيها على وفق نظام يرتضيه الله تعالى وتقبله الإنسانية وهذه النواة يجب أن تكون هي العنوان الذي يمكن أن نستدل به على صلاح ذلك المجتمع أو عدمه بتعبير آخر إذا صلح الآباء والأمهات فإن الجيل الذي يبني أسس الحياة يمكن أن تظهر عليه وبه نتائج الصلاح أما في حالة فساد الآباء والأمهات فإن البنيان لا بد أن تكون أركانه آيلة للسقوط ومن هنا نجد الانحراف الذي يحل بالمجتمع بسبب القدوة غير الصالحة لا سيما الأم التي تتحمل العبء الأكبر من تربية الجيل فلا يمكن لتلك الأم أن ترعى الأبناء وتربيهم التربية الحسنة إذا كانت هي أصلاً لا تتناهى عن فعل القبيح وأما قول النبي (ص): من أن [الجنة تحت أقدام الأمهات] فلا يمكن أن يؤخذ على إطلاقه بل يجب تقييده بالأمهات الصالحات المؤمنات لأن الله تعالى يشترط الإيمان في هذا الجانب كما قال: (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء) الطور 21. إذن شرط الإيمان يلقى على عاتق الطرفين، ومن هنا نجد أن الحقوق تترتب على الآباء أنفسهم لأنهم هم الذين يتحملون مسؤولية تربية أبنائهم ثم بعد ذلك فإن الشارع يطالب الأبناء بأداء واجبهم.
أما إذا كان الأب لا يأبه بأبنائه ولا يتيح لهم فرصة اللقاء به أو إرشادهم فلا يمكن أن يطالب الابن بنوع من البر قبال هذا الأب، نعم القرآن الكريم يشير إلى مصاحبتهم بالمعروف دون الطاعة التي نهى عنها في قوله تعالى: (ووصينا الإنسان بوالديه حسناً وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون) العنكبوت 8.
وقد ذهب الكثير من المفسرين عند مرورهم بهذه الآية الكريمة إلى أن الشرك هنا هو أن يجعل الإنسان شريكاً لله في الخلق والتدبير وهذا النوع من الشرك هو الذي يبنى عليه عدم طاعة الوالدين، وهذا التفسير وإن كان صحيحاً في نفسه إلا أن للشرك مفهوماً آخر تنطوي تحته معاني لا حصر لها وهذا المفهوم لا نستطيع حصره بالشريك المشابه للخالق جل جلاله، وإنما يمتد إلى مصاديق كثيرة فهو كالبحر فعند سماع الإنسان لهذا اللفظ يتجسد في ذهنه الصورة التي يكون البحر عليها، ولكنه لا يستطيع الإحاطة بذلك البحر وأسراره وما بداخله من مخلوقات، فقد يكون المجهول فيه أكبر من المعلوم، لذلك يقسم الفقهاء الشرك إلى أقسام عديدة من أهمها شرك النية: وهي أن تطيع غير الله في الأمور التي يجب طاعة الله فيها. وشرك آخر: وهو شرك المحبة وهذا النوع من الشرك يجعل الإنسان يعتقد أن حب غير الله أقرب إلى نفسه من حبه تعالى. وكذلك شرك الطاعة: وهي أن تطيع المخلوق في معصية الخالق، وهنالك أنواع أخرى للشرك يذكرها الفقهاء ليس محلها البحث الذي خصص لهذا المقال لذلك أعرضنا عنها، وبالجملة نستطيع القول إن الشرك الذي يدعو له الوالدان لايعني أن تجعل لله نداً فقط بل يمتد إلى أنواع أخرى وعلى هذا التقدير لا يجب طاعة الآباء والأمهات في كل ما يؤدي إلى معصية الله تعالى، أما إذا كان الأبوان من القسم الذي يجب على الأبناء طاعتهم فهنا لابد من برهما وإلا ترتبت على عدمه العقوبة الإلهية والقرآن الكريم يشير إلى توصية الأبناء في هذا الجانب بقوله تعالى: (ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً حملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً وحمله وفصاله ثلاثون شهراً حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال ربي أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحاً ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين) الأحقاف 15. وفي هذه الآية الكريمة نجد الحق تبارك وتعالى يوصي الإنسان بوالديه وقد جعل الجزء الأكبر من الوصية عائداً إلى الأم وهذا لا يعني أن الآية تلغي دور الأب وذلك لأن دور الأب واضح ومشاهد من قبل أبنائه كتوفير المأكل والملبس والرعاية في مختلف شؤون الحياة، أما ما يكون من ناحية الأم فإن دورها وما تقدمه لأبنائها من رعاية كل هذا يكون مخفياً وغير معلوم من قبل الأبناء ولا يمكن لأحد غيرها الاطلاع عليه لأن المتاعب تبدأ مع الأم من أول لحظات الحمل إلى جميع مراحل حياة أبنائها فهذه المسؤولية لا يتحملها الأب بقدر ما تتحملها الأم لذلك أكد القرآن الكريم على الإهتمام بالأم وتفصيل مهامها ليلفت أنظارنا إلى الجزء المهم من حياة الإنسان وهو في غفلة عنه. فإن قيل: كيف يخاطب القرآن الكريم الإنسان عند بلوغه الأربعين أن يشكر لوالديه؟
أقول: يخاطب القرآن الكريم الإنسان في هذا العمر لعلمه أن الرعاية الأبوية قد آتت ثمارها لديه أما في حالة فقده تلك الرعاية فإن العملية تكون سالبة بانتفاء الموضوع، وفي حالة حصول الابن على الصلاح من جهة أخرى، بما في ذلك المن واللطف الإلهي فهنا يكون هو المرشد لأبويه وليس العكس كما حصل مع إبراهيم (ع) وأبيه آزر، فأول الأعمال التي قام بها إبراهيم إنه دعا أباه إلى نبذ عبادة الأصنام وتوحيد الله تعالى وكان هذا العمل مقروناً بلين الجانب إلا أن الأب قابل ذلك اللطف بالحماقة والسفاهة فما كان منه إلا أن يقول لإبراهيم كما ذكرت الآية الكريمة: (قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني ملياً) مريم 46.
ومع كل ما تقدم من فعل الأب إلا أن إبراهيم خاطبه كما في قوله تعالى: (قال سلام عليك سأستغفر لك ربيمريم 47. وكذلك قوله: (واغفر لأبي إنه كان من الضالين) الشعراء 86. وهذا الاستغفار أحدث شبهة كبيرة لدى البعض لبعدهم عن أسرار القرآن الكريم والجواب على ذلك: إن الاستغفار للشخص الذي يرجى منه الإيمان يجوز شرعاً مهما كان توجه المستغفر له ولكن إذا علم المستغفر أن المستغفر له أصبح من الذين ختم الله على قلوبهم فعند ذلك يجب عليه ترك الاستغفار، لأن الأول أصبح في عداد الذين لا فائدة ترجى من إيمانهم كما قال تعالى: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم) التوبة 113. فهنا قد نهاهم تعالى عن الاستغفار بعد أن حصل لديهم العلم أن هؤلاء من أصحاب الجحيم لذلك عقب تعالى بقوله: (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم) التوبة 114. وهذا يدل على أن وعد إبراهيم لأبيه كان مشروطاً بالإيمان فلما تبين عدائه لله تبرأ منه.
 
فإن قيل: لقد ورد في الخبر أن النبي (ص) قال [مازلت أنتقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات] وهذا يدل على أن الأنبياء لم يولدوا إلا من الأصلاب الطاهرة والأرحام المطهرة؟ أقول: نعم هذا صحيح ويؤيده قوله تعالى: (وتقلبك في الساجدين) الشعراء 219. إلا أن الآيات التي أشارت إلى موقف إبراهيم من أبيه آزر لا تدل على أن المقصود هو الأب الحقيقي لإبراهيم وإنما آزر هو عمه وهنا نحتاج إلى بعض الإطناب في الدليل: هناك مجموعة من الآيات وردت فيها كلمة (لأبيه) واحدة منها ليوسف في قوله تعالى: (إذ قال يوسف لأبيه) يوسف 4. ولم تذكر الآية أن أباه هو يعقوب ولكن في القرائن الأخرى يتضح ذلك. أما الآيات الأخرى فجميعها ذكرت إبراهيم في قوله: (وإذ قال إبراهيم لأبيه) في أكثر من موضع ولم تحدد الآيات اسم الأب إلا آية واحدة فقط ذكرت أن أباه هو آزر في قوله تعالى: (وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناماً آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين) الأنعام 74.
وهذه هي الآية الوحيدة التي ذكرت آزر بالاسم وقد دلت دلالة واضحة على أنه ليس الأب الفعلي لإبراهيم، ولذلك عندما نريد الحديث عن الأشياء بطبيعتها الأصلية لا نحتاج إلى قرينة صارفة لأن الأصل يفهم بدون قرائن.. من هنا نفهم أن الآية الكريمة عندما أتت بقرينة آزر دلت على أن هذا هو ليس الأب الحقيقي لإبراهيم وإلا فليس هناك ما يوجب ذكره بالاسم، والأب في جميع لغات العالم يطلق على الوالد والعم والجد بنوعيه وزوج الأم أو المربي وكذلك الأب الروحي بل وحتى الأم لها نصيب من هذه التسمية كما في قوله تعالى: (ورفع أبويه على العرش وخروا له سجداً) يوسف 100. وبالإضافة لما تقدم نجد أن القرآن يطلق لفظ الأب على الوالد والجد كما في قوله: (واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب) يوسف 38.
وكذلك يطلق الأب ويريد به العم كما في قوله: (أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق) البقرة 133.