في بلد الغرائب .. محنة اصحاب المواهب

 

كم يتمنى المرء لو توفرت لديه احصائية بعدد العقول المفكرة في شتى ميادين الحياة التي غادرت العراق منذ العام 1958 والاعوام التي تلته حتى يومنا هذا... ودائما كانت الاسباب ذاتها التي دفعت الى هذه الهجرة الجماعية... فنحن نلحظ اولاً ان المفكر وصاحب المعرفة والمثقف عموما لا يجد الوسيلة التي يستثمر فيها امكاناته لصالح وطنه أو لصالح نفسه.. فسيف السلطة مشهور بوجهه وهو اما ان يتحول الى مادح رخيص الثمن اذا كان اديبا أو فنانا، أو منفذ لما يؤمر به في الحقول العلمية، أو يكف عن كل تفكير وكل تجربة، ويعيش وكأنه لا يعرف شيئا... ويؤكد جهله المفترض ليكون مرضيا عنه، أو يتجنب لفت النظر، وما يتلوه من شرور... ثانيا: ومن المفارقة ان كل من يأتي من الخارج وهو مزود بمعارف جديدة واساليب جديدة في العمل يحاط من قبل زملائه في المهنة قبل غيرهم بمشاعر من النبذ، والكراهية، والسخرية تنتهي بالتآمر عليه، وهو يرغم على سلوك واحد من طريقين اما الخضوع ليكون واحداً منهم وعلى شاكلتهم، أو يغادر سريعا قبل ان يحدث له ما لا تحمد عقباه... ثالثا: وليس المعرفة وحدها تعتبر تحديا لما هو قائم، وتقاوم بشتى الوسائل أنما الجدية في العمل ففي تكوينات اجتماعية وادارية راكدة يصبح الهم الاوحد هو تعداد الأيام واستلام الراتب،ولا رقيب على الاداء، ولا مقياس للنجاح سواء في المجال الانتاجي أو الخدمي، بل لا احد يعطي أية اهمية للنجاح... وهو ان جاء فانه غير مقصود أنما محض صدفة.... رابعاً: ليس هنالك من وسائل يحتاجها ذوو المعرفة لتوكيد فرضياتهم أو نظرياتهم العلمية، ففي كثير من الاحيان يعز على الباحث حتى الدورق الزجاجي وانبوبة الاختبار وشعلة الكحول... والطبيب كالباحث لا يجد وسائل التشخيص الحديث التي تستجيب لحاجاته ولا وسائل العلاج المتطورة... بينما في العالم المتقدم يكفي العالم والباحث والاخصائي في أي مجال ان يطلب شيئاً لاستكمال بحوثه أو تجاربه حتى يجده امامه كما يريده ان يكون، وفي معظم الاحيان ليس الجهاز متوفراً في أية سوق لكنه يصنع بالمواصفات المطلوبة على الفور... اما في مجال الانسانيات فما اهمية ان يكتب الاديب ديوان شعر أو رواية أو مجموعة قصصية، وما اهمية ان يرسم الفنان التشكيلي مجموعة لوحات أو نماذج تراثيه اذا لم تجد وسيلة للنشر؟ وسيلة لان تصل الى المحيط الاجتماعي الوطني أو القومي أو الانساني كما يحدث للاعمال الادبية والفنية في سائر بقاع الارض... ان المفكر لا يجد حتى من يطبع اطروحته بل هناك مجرد ملاحظة في ذيل القرار الخاص بمنحه الشهادة تقول الملاحظة (وتوصي اللجنة بطبعها) ولكن لا احد يعرف لمن التوصية اهي للجامعة التي لم تعمل مطبعتها شيئا منذ عقود؟ ام للدولة؟ ام لاهل الخير؟؟؟. وهنا فان محنة الاديب هي ذاتها محنة العالم فهو لا يملك المال الذي يطبع فيه نتاجه، وان ارسله الى لبنان مثلا سواء كان تاليفا أو ترجمة فان دور النشر لا تعطيه من جهده إلا ما يقل عن عشرة نسخ، ودائما فان هذه الدور تربح من جهد المثقفين وتدعي الخسارة... خامساً: ان العالم والمفكر والاستاذ الجامعي، والفنان، والاديب، وحتى صاحب الحرفة هم ايضا بشر لهم ذات الحاجات التي يسعى الناس لاشباعها... وكل الانظمة التي تعاقبت تدعي ان الإنسان يكافأ حسب جهده، ولكن ما من مرة كوفيء احد على مقدار جهده.... فالكل متساوون: صاحب المعرفة والجاهل... والمثقف والامي... الذي يعمل بجد والذي يقضي الوقت بالنوم... المخلص في عمله والمسئ... النزيه والمرتشي... الجريء في اتخاذ القرار والجبان. المجدد في اساليب العمل والحفيد الوفي لآل عثمان.. وليت الامر يقف عند حدود المساواة بل انه في كثير من الاحيان يحظى صاحب المواصفات السيئة بالمكافأة، والمنصب، والراتب، والرضى عنه، وطول البقاء بينما يبقى النقيض، العارف، المجدد، العامل الجاد خارج دائرة الاهتمام بل ومحاطاً بالريبة والشك... وعندما لا يجد صاحب الكفاءة ما يوازي جهده، أو حتى ما يقيم اوده، ويظل يعاني من ضنك العيش، ويعرف الحياة المرفهة التي يعيشها اقرانه في اقطار أخرى وان هذه الاقطار مستعدة لاستقباله واعطائه حقه واكثر فهو لا يملك وسيلة إلا الهجرة.. سادساً: ولقد تحدث الكثيرون وما برحوا يتحدثون عن الوطن والوطنية ويتهمون من يشد الرحال للخارج بعدم الإخلاص، لكنهم ينسون أو يتناسون ان الوطن ليس ارضاً وحسب بل ان الوطن: حاضنة لاهل العلم والمعرفة.. والوطن هو المجال الذي يتيح للانسان التعبير عن مواهبه... والوطن هو الاحترام والمكانة اللائقة لاهل العلم والثقافة... والوطن هو العيش الكريم لذوي المواهب... والوطن هو الميدان الذي تتوفر فيه اسباب التعبير ووسائله... والوطن هو الحماية من الفقر والضمانة. والوطن هو العدل والمساواةـ ليست المساواة الفجة دون اعتبار للتمايز بين ذوي المواهب والخلاة منها بين العاملين المجدين والكسالى. والوطن امن وسلام... والوطن حرية. سابعاً: هنا نتوقف عند نقطة مهمة، فنحن نؤمن ان الحرية الملتزمه هي شرط الابداع في كل ميدان من ميادين الحياة... لكن المثقف في العراق مكبل الفكر مقيد القلم، مكمم الشفتين... فهو أما ان يكتب وينطق تمجيداً للحاكم أو لحزبه والا فتحل عليه اللعنة، فيمنع من الكتابة والكلام، ويمنع من النشر، ويمنع من العمل كيما يعيش، ويعتقل، وقد تمحى حياته، وكل ذنبه انه لا يؤمن بمنهج الحاكم ولا بعقيدة حزبه. ويفترض ان يكون الايمان واللا ايمان حق للمواطن، لكنه ظل في بلادنا باطلاً وحراما... ثامنا: ان هناك مشكلة لذوي المعرفة تكمن في طبيعة النظام الاقتصادي، فعندما يكون كل شيء مملوكا للدولة، فان للدولة قوانينها الصارمة التي لا تتيح التفريق بين العامل والكسول، ولا بين العارف والجاهل، فكل من لا يعاقب يجري ترفيعه، وكل من يحضر الدوام حتى ولو لرؤية اصحابه واستقبال الضيوف يكون قد ادى الواجب... ايضاً فان المحسوبية، والحزبية، وصلات القربى، والعلاقات، تصبح هي المعيار... والدولة باعتبارها صاحبة المشروع وربة العمل هي كيان هلامي، غائب عن الساحة.... بينما في القطاعات الخاصة واقتصاد السوق فان رب العمل موجود وهو في سبيل ان يربح لا يهمه ان يطرد من العمل حتى ابنه، أو يستقدم الد اعدائه ويوفر له سبيل النجاح، فالكفاءة عنده لا تقل اهمية عن رأس المال فكلاهما استثمار... تاسعا: ان مشكلة صاحب المعرفة ايضاً تتجلى في هذا الصراع الازلي بينه وبين الجهلاء... فالجاهل يحقد على صاحب المعرفة، والجاهل يجد وسيلته السهلة في الحصول على مكافأة لجهله، ووجاهة لا يستحقها، وموقع ليس أهل له، وتأثير ليس من حقه يجد ذلك كله في العمل السياسي مع الأحزاب الدكتاتوريه النهج أو الشمولية، وهنا فانه يتسلط على رقاب ذوي المواهب، ويفرغ حقده عليهم.. ولعل خير مثال على ذلك ما قام به من منحوا مناصب عالية وهم لا يصلحون حتى (.........) لقد ظل هؤلاء يعملون بدأب على اقصاء كل مبدع محترف، عالم، شجاع، يتهم بشتى التهم... وانه لامر طبيعي ان يلاقي هذا السلوك قبولا عند الحاكم لأنه هو الآخر يضيق ذرعاً بالشجاع الذي يقول : كلا، وبصاحب الخبرة الذي يرشده الى الصواب.. ويمنعه عن الغي، والحماقات والمغامرات غير المحسوبة. عاشراً: لقد وصل الامر بعد الاحتلال حد الفجيعة... فالمنظمات الإرهابية والحكومات التي تمولها، وتسهل دخولها للعراق، وتمدها بكل ما تحتاجه... قد وضعت مخططاً مدروساً يقوم على تعميم الجهل والظلام فهذه الفئات لا تعيش في بيئة اجتماعية متنورة، ولا تتعايش مع فئات اجتماعية مستنيرة، واشد ما يضيرها هو وعي الناس، واكثر ما يؤذيها هو مجتمع يؤمن بالعلم لا بالخرافة، واعدى اعدائها هم أهل المعرفة والثقافة لان هذه النخبة تبقي عقل الجمهور يقظاً، وتلهم المواطنين حب الحياة بينما تسعى تلكم الفئات الى الغاء العقل، وتعزيز حب الفاقة وحتى الموت، وفرض العزلة عن الحياة، وهذا هو ما حصل في افغانستان طالبان ...... لذلك حاولت عناصر الإرهاب ان تجتث العقول بالاغتيالات وعمليات الخطف والتهديد بالمغادرة والتي شملت العلماء، ورجال الدين المتنورين، واساتذة الجامعات، والادباء، والصحفيين، والاطباء، والمهندسين، ورجال الاعمال من ذوي الخبرة واصحاب المعرفة بمقتضيات مهنتهم... ولقد تم ذلك وفق جداول موضوعة، وسياقات مدروسة، فقتل من قتل وهاجر من نجى... وآخر ما امتدت اليه الايدي هو انابيب الماء الصالح للشرب ربما لان الماء حياة...ناهيك عن تخريب انابيب النفط الذي هو شريان الحياة للاقتصاد العراقي فكيف(مثلا) يحلل الثقافة من يجعل الماء حراما...والنفط حرائقا ... تلكم هي اذن محنة أصحاب المواهب في بلد العجائب...... الدكتور يوسف السعيدي