الشدة بعد الفرج .... احمد جاسم العلي

_1_

 

كانت اللقمة في فمه، أسنانه تلوكها يمينا وشمالا وهو يتكلم بسرعة منفعلا. وعندما أراد ان يدفعها إلى معدته غص بها. دمعت عيناه، ونهض عن المائدة مرعوبا وهو لا يكاد يجد سبيلا إلى إستنشاق الهواء، وراح يدور في المطبخ، يتوقع بين لحظة وأخرى ان ينقطع نفسه. ذعرت زوجته وارتبكت، كما في كل مرة، لا تدري ما الذي عليها ان تفعله في تلك اللحظة وهما وحدهما في البيت. كانت حالة الإختناق هذه تداهمه بين حين وآخر منذ سنوات عندما يتكلم منفعلا في الأمر الذي يهمه ويشغله وهو يأكل بسرعة منفعلا. قال له الطبيب مرة، حاول ان لا تتكلم وأنت تأكل الطعام، وإذا تكلمت تكلم بهدوء حين تأكل، ويجب ان تكون مرتاحا نفسيا عندما تجلس إلى مائدة الطعام. كان يحاول ان يفعل كل ذلك، ولكنه لاينجح في كل مرة وهو يتكلم في الأمرالذي يشغله ويهمه ويحزنه. إنه لا يتكلم فقط وهو جالس إلى المائدة؛ إنه يتكلم في أي مكان يجلس فيه داخل البيت أو خارجه. ولا يتكلم مع أحد خارج البيت إلا إذا كان صديقا قديما، متعاطفا ومؤتمنا، يتكلم هو الآخر في الأمر الذي يشغله ويهمه ويحزنه  مع الأصدقاء المتعاطفين والمؤتمنين.

" يا عيني، كم مرة انبهك لا تتكلم وانت على الأكل،"  قالت له بعد ان تخلص من النوبة الخطيرة. "  شنو الفايده من الحجي  ماكو فايده يا يابه "  قالت وهي تساعده على التمدد فوق الأريكة في صالة البيت الباردة. كان متعبا ومنهكا بسبب الجهد الذي بذله للتخلص من حالة الإختناق التي داهمته. كان يدور حول نفسه مذعورا ويمسك بزوجته مستنجدا بها ويتشبث بأي شيء قريبا منه. كان خائفا، غير مصدق انه تخلص من نوبة الإختناق. "  من كعدنا نتغده وانت تحجي،  ما ينفع الحجي يا عيني،  جاب نتيجة   تغير شي  لا،  يوميه حجي يوميه حجي،  مرة من المرات تصيبك إسم الله هذه الحالة وتموت لا سامح الله،  وين انطي وجهي،  وين اروح " قالت وهي تضع مخدة صغيرة خلف رأسه. " يومية تكول "" شوكت نخلص من هذا الوضع  شوكت نخلص من هذا النظام  شوكت نخلص من هذا الظالم  شوكت نخلص من هذه المعاناة  شوكت نخلص من هذا الخوف  شوكت تفرج على العراقيين،  شوكت يرتاحون ويستقرون  شوكت يعيش العراق بامان واستقرار  ما يكفي هذا الذي جرى على العراقيين  ""  يوميه تحجي هذا الحجي  اصبر يا عيني، شده وتفرج، كول إنشاء الله  "

نظر إليها متذمرا من إسترسالها في الكلام، ولكنه لم يشأ إسكاتها لأنه يعرف أنها تحاول التخفيف عنه ويعرف انها إمرأة منكوبة، مهمومة وتعاني مثله. تركته وذهبت إلى المطبخ. ولم يعد إلى حالته الطبيعية إلا بعد وقت. نادت عليه ان يأتي إلى المطبخ ليكمل طعامه ولكنه رفض بصوت ضعيف.

" أُكلي إنتِ،"  قال ونهض عن الأريكة.  " راح أنام بالغرفة فد ساعة " قال واتجه إلى غرفة النوم.

" الغرفة باردة، "  قالت ونهضت عن المائدة.  " خلي أشعلك المدفأة،  لحظة "

" لا ما اريد "

نام أكثر من ساعة. نام بسرعة. ولأول مرة منذ ثلاثة أشهر أو أكثر حلم بولده مرة أخرى. ومن مكانها في الصالة سمعته ينشج، ثم يبدأ بالبكاء. عرفت، كما في كل مرة، أنه تذكر ولدهما أو أنه حلم به. نهضت وتوجهت إلى الغرفة. كان المساء قد حل والغرفة مظلمة والسكون والهدوء يلف المحلة الشعبية القديمة. أضاءت النور فتحرك من مكانه في الفراش.

" لا لا،  طفي الضوه "

" خلي أشوف شبيك عيني "  قالت وهي تقترب من السرير. " شبيك عيني   حلمت بالولد "

لم يجب. أدار رأسه إلى الجهة الثانية، واخفى وجهه في المخدة.

" شحلمت يابه " سألته وهي تقف عند رأسه. " حلمت بالولد  حِجه وياك  حِجيت وياه  شكلك  اشجان لابس  هم جان لابس دشداشه بيضه  هم جان وجهه كله نور مثل كل مرة  هم جان حزين  وين جان كاعد  حجيت وياه  هم كال اريد اشوف أمي  هم كال مشتاق اشوف أمي  شحلمت عيني  عاب كلبي عليك يمه،  سوده بوجهي ما رحت وياك يوم الرحت بيه "

"  كافي كافي، الله يخليج كافي " إستدار إليها في ظلام الغرفة " يعني ابجي عليج لو ابجي على الولد "

وسمعها تبكي هي الأخرى. وسرعان ما انقلب البكاء إلى نحيب مؤلم. وعندما تركت الغرفة الغارقة في الظلمة نهض عن فراشه وجلس على حافة السرير ووضع رأسه بين يديه وترك دموعه تتساقط على الأرض قبل ان ينهض ويذهب إلى الحمام ليغسل وجهه.

 

++++++++++

 

كان الولد الوحيد كثير التذمر من واقع الحياة التي يحياها بسبب وجود ذلك النظام الذي جاء ليحكم للمرة الثانية عام 1968. وكان والده وهو بعد شاب لا يتذمر من واقع الحياة البائس الفقير الذي يحياه هو وعائلته بسبب نظام الحكم الملكي وخاصة حكم نوري السعيد. ولم يتحرك يوما ضد ذلك النظام، فلا خرج مرة في مظاهرة من تلك المظاهرات التي كانت تخرج في بغداد في الخمسينيات، ولا تحدث يوما في السياسة مع الآخرين في أية مناسبة إلا أحاديث ليست مهمة، عابرة وتقتضيها اللحظة، ولا أثار موضوعا سياسيا مهما يخص الوضع السياسي في البلد في جلساته مع أصدقائه ومعارفه، ولم يكن يعلق بشيء على المظاهرات التي كانت تمر من أمام محله في شارع (عبد الإله) إلا تعليقات غير جادة وهو منشغل في عمله؛ يحلق لآحدهم رأسه أو وجهه. كان ولده إبن الخامسة عشر يقف أمام باب المحل يتفرج على المظاهرة ويقول لوالده بين حين وآخر " يابه  يابه  اروح وياهم بالمظاهرة " وهو لم يعي بعد معنى المشاركة في المظاهرة. كان الوالد يجيبه وكأنه يجيب رجلا مدركا وواعيا ان السياسة لا تفيد والإشتغال بها لا تحمد عواقبه، ومن الآفضل للإنسان أن لا يهتم بها ويقف بعيدا عنها ويتفرج على ما يجري من أحداث سياسية في البلد. كان همه الأول ان ينتهي من عمله مساء كل يوم في محل الحلاقة الذي يملكه في جانب (الكرخ) ويذهب ليجلس في إحدى مشارب (الصالحية،) يشرب مع أصدقائه أو يسهرون معا في ملهى (ليالي الصفا) ليعود إلى البيت في وقت متأخر من الليل، يتلمس طريقه في ظلمة الدرب القديم، مترنحا.

 

++++++++++

 

" الولد يقلقني هذه الأيام،"  قال لزوجته يوما وهما في البيت قبل الظهر، ينتظران عودته من الكلية. " منتبهة لتصرفاته "  سألها.

" يعني شلون،  شفت عليه شي "

" اشوفه ما مرتاح،  نفسيته تعبانه "

" ما مرتاح من شنو "

" من هذا الوضع  يتذمر ويكول لازم ولازم "

" لازم شنو"

" لازم نسوي شي "  قال وتوقف، ثم أردف " هذا الحجي يصير وإنت موجودة احيانا، شنو تنسين"

" لا ما أنسى "  هزت رأسها موافقة وسألته " حجيت وياه "

" لا بعد، بس آني اعرف هو ماله علاقة بالسياسة، آني وصيته من زمان لا يهتم بالسياسة  السياسة ما تفيد "

" أهوووو، من جان بعده ولد صغير، الحمد الله اليوم كبر وعرف شكو ماكو بالدنيه "

" يعني شنو قصدك  تورط بالسياسة "

" إسم الله "

" تورط بالسياسة ويريد يواجه هذا النظام "

" إسم الله الرحمن "

" هو احنه عدنه كم ولد  هو ولد واحد، يريد يسوينه مصيبه "

" إسم الله الرحمن، إحجي وياه يا رجال "

" احجي وياه، نعم، اليوم من يجي احجي وياه "

ولكن الولد لم يعد إلى البيت في ذلك اليوم ولا في الأيام ولا في الشهور ولا في السنوات التي مضت. وبدلا من ان يعود الولد الى البيت كان رجال الأمن يعودون الى البيت بين فترة وأخرى ليوجهوا أسئلة استفزازية إلى أبويه، أو يرسلون في طلب الأب إلى مركز الشرطة ليخضعوه إلى تحقيق يخرج الأب بعده منهارا لا يكاد يقوى على العودة إلى البيت وليبقى بعد ذلك طريح الفراش لعدة أيام.

 

-2-

   

لم تسعه الفرحة والإستبشار في الأيام الأولى بعد سقوط النظام. وهذا اليوم وبعد مرور أكثر من شهر على التغيير كان يتكلم سريعا، منشرحا ومنفعلا، عن مشاهداته في بغداد ومظاهر الوضع الجديد في الشوارع وبين الناس.

" خلصنا، خلصنا " ردد امام زوجته وهو يجلس امامها إلى مائدة الطعام. كان قد عاد إلى البيت قبل الظهر بعد جولة أخرى في أنحاء بغداد شاهد فيها كما في الأيام الأولى خروج الناس إلى الشوارع، وتزايد مظاهراتهم في الساحات والميادين، خاصة في ساحة (الفردوس) أمام فندقي (عشتار شيراتون) و (فلسطين ميرديان) حيث تقف قوات أمريكية، متمركزة امام مداخل الفندقين، ويطل من شرفة في فندق (فلسطين ميرديان) جمع كثير من مراسلي ومصوري وكالات الأنباء العربية والعالمية، ينقلون مشاهد المظاهرات في ساحة (الفردوس،) بينما نزل آخرون منهم إلى الشارع وراحوا يجرون مقابلات ولقاءات سريعة مع هذا وذاك من المتظاهرين. متظاهرون؛ موظفون وعمال، يطالبون بارجاعهم إلى وظائفهم التي فصلوا منها زمن النظام السابق، ومتظاهرون؛ موظفون وعمال، يطالبون بزيادة رواتبهم التي لم تكن تسد رمقهم زمن النظام السابق، ومتظاهرون؛ عاطلون من خريجي الكليات يطالبون بتعيينهم بعد ان كانوا عاطلين زمن النظام السابق، ومتظاهرون؛ موظفون وعمال يطالبون بطرد هذا وذاك من الموظفين والمدراء والمسؤولين الكبار في دوائرهم لأنهم من جماعة النظام السابق، وتسليم مناصبهم إلى هذا وذاك من الموظفين الصغار في دوائرهم لأنهم كانوا مبعدين مهمشين ومقصيين زمن النظام السابق، وتكريمهم أيضا، وموظفون وعمال يطالبون بإلغاء هذه المؤسسة وتلك لآنها مؤسسات أمنية وإستخباراتية ومخابراتية سممت حياة الناس. " واخيرا فرجت وخلصنا "

" الحمد لله   وإنت، ويامن جنت تتظاهر " سألته زوجته.

" مع الجميع "  أجاب متحمسا.

" يعني شلون مع الجميع "

" مشاعري وعواطفي كانت مع الجميع وآني اشوفهم يهتفون ويطالبون ويرفعون اللافتات  

خلصوا من الظلم وتحرروا من الخوف، شده وفرجت على العراقيين "

" ها  مو كتلك اصبر،  شده وتفرج،  يا عيني  الصبر مفتاح الفرج "

" دم ولدنا ودم ولد الناس ما راح هدر، جاب نتيجه  هسه عاد العراقيين راح يرتاحون ويستقرون ويشوفون دربهم ويبنون حياة جديدة والخير يعم عليهم "

" إنشاء الله "  قالت واردفت  " نزلت وياهم للشارع "

" لا،  بقيت واكف على الرصيف،  اتفرج "

" هم بعدك توكف على الرصيف،  كضيت عمرك واكف على الرصيف تتفرج "

" يمكن انزل للشارع اذا استقرت الأوضاع وصارت عندنا حرية وديمقراطية حقيقية "

" إنشاء الله " قالت زوجته وهي تنهض عن المائدة. بقي زوجها يتكلم؛ سريعا، منشرحا ومنفعلا. كان يلوك اللقمة في فمه، ولكنه لم يغص بها هذه المرة، ودفعها إلى معدته بسهولة ويسر دون ان تداهمه حالة من حالات الإختناق.

 

++++++++++

 

كانت اللقمة في فمه، أسنانه تلوكها يمينا وشمالا وهو يتكلم بسرعة منفعلا، اكثر مما كان يفعل سابقا. وعندما اراد ان يدفعها إلى معدته غص بها بقوة، اكثر مما كان يحدث له سابقا. كاد ان يختنق. دمعت عيناه ونهض عن المائدة مرعوبا مذعورا وهو لا يجد سبيلا إلى إستنشاق الهواء، وراح يدور في المطبخ كالطير المذبوح بسكين غير حادة، يتوقع بين لحظة واخرى ان ينقطع نفسه نهائيا ويسقط ميتا .....

" يا عيني  كم مرة نبهتك  لا تتكلم وانت على الأكل " قالت له بعد ان فلت وتخلص من نوبة الإختناق التي فافت خطورتها المرات السابقة. " شنو الفايدة من الحجي  من كعدنه نتغده وانت تحجي،  يوميه تكول "" هذا شلون وضع يا ناس،  شنو الذي تغير يا عالم  ناس نزلو وناس صعدو،  كنا نتوقع بعد ما تخلصنا من ذاك النظام الظالم ان نعيش باستقرار وامان وراحة بال ويعم الخير كل الناس، ""  تسكت وترد تكول "" لا والله الحاضر ما يبشر بخير والمستقبل مظلم وما نعرف شلون راح تصفه الأوضاع ""  يوميه تحجي هذا الحجي، اصبر ياعيني، شده وتفرج، كول إنشاء الله "

لم يقل إنشاء الله. ولكنه سكت عن الكلام حين نهض عن مائدة الطعام.

 

ahmedjassimalali@yahoo.com