بين الميزان والقانون . . .

أصبح القانون يدخل في أدق تفاصيل حياة الانسان اليومية ، ولم يكن كذلك فيما مضى حيث لم تعرف الحياة القانونية في المجتمعات القديمة سوى من قبل سكان المدن ، أما اليوم فإن أي تضائل في الاعتبارات القانونية لأي سبب كان ، فأن اول المتضررين جراء ذلك هم عامة الشعب ، وليس صفوة المجتمع والمتنفذين ، الذين غالباً ماتتم تسوية قضاياهم القانونية وفق مايرغبون ، وربما يأخذون اكثر مما يستحقون ، لاسيما في دول العالم الثالث ، حيث يكون تعاملهم في مجال تنفيذ القانون عبر الوساطات ، والمال والجاه ، ويأتي دور التنفيذ الاعتيادي لنص القانون في درجة متأخرة .
وهنا تكمن مشكلة المواطن عندما يتوجه نحو القانون لأخذ حقوقه بواسطة مؤسسات الدولة ، التي يلتجأ اليها رغم عدم قناعته بعدالتها ، فالدولة العصرية اصبحت مسؤولة عن الانسان من المهد الى اللحد (كما يقولون) ، وهذا المفهوم اصبح شائعا حتى في ظل كل الانظمة الحكومية والشعوب المتقدمة في ثقافتها القانونية ، حيث نجد القوانين تنظم حياة الانسان منذ ولادته وحتى موته ، من حيث السكن والعمل والحياة الكريمة ، ولكن ذلك يكاد يكون معدوما في نسب كبيرة من دول العالم الثالث بسبب التخلف الذي يسود هذه المجتمعات والحكومات ، وهذا مايتوجب على الحكومة ترسيخ ثقافته لدى مواطنيها لزرع الثقة في نفوسهم تجاه وطنهم ودولتهم .
في دول العالم الثالث نجد مايُعطى من جهد من قبل المؤسسات ومنتسبيها يُعطى بالدرجة الاولى للمصالح الشخصية والافراد والجماعات الخاصة ، وليس للدولة وللمصلحة العامة ، وهذا أحد أهم أسباب الإخفاقات القانونية في فهم الحكومات والشعوب للثقافة القانونية والوطنية .
يقول المثل العربي (الحاجب وجه السلطان ) ، ولا يمكن لمدير او وزير او محافظ ، ان يجد صعوبة بإختيار من هو حريص على ضمان سمعته ليكون حاجبه ، رغم ان الحاجب إذا لم يُحاسب نفسه قبل ان يُحاسب ، فلن يرتدع ان يكون حاجب سيئ ، خصوصاً إذا كان حاجب لمسؤول سيئ .
وإذا كانت الرشوة قد استشرت بالعراق إبّان فترة الحصار ، وكانت تُمارس بالسر ، فهي تجري اليوم بعلم وتشخيص من الحكومة وجميع السياسيين ورموز المجتمع الدينية والثقافية والإجتماعية ، ويعتبرها البعض أنها من ترسبات وآثار فترات الحصار والحكم الدكتاتوري البائد ، وقلة الموارد والدخل الفردي والاحتلال .
ولم تضع الحكومة العراقية الخطط القانونية الجدية من حيث التشريع والتنفيذ ، التي تحد من هذه الظاهرة رغم المطالبات من قبل الجهات الثقافية والاجتماعية والسياسية ، لاسباب بعضها مقبول وأكثرها غير مقبول ، والمشكلة الحقيقية بنظرنا هي ان بعض كبار الساسة لازالوا يعطون في تصرفاتهم قدوة سيئة ، يُقتدى بها من قبل الموظفين (السيئين) في ابتزاز الدولة والناس ، وهذا ناتج أيضاً من ضعف الفهم الوطني والقانوني لدى هؤلاء .
 كما ان السياسيين المغرضين الموجودين اليوم لايريدون للدولة وللحكومة ان تنجح في مهمتها في تشريع القوانين وتنفيذها ، حيث يقفون دائماً للحيلولة دون اصدار القوانين خشية ان تُحتسب منجزا لهذا او لذاك وتناسوا ان هذه القوانين هي أساس بناء الدولة .
كما ان اساليب المماحكات السياسية التي تجري بين أشباه السياسيين ، أثرت على سير الخطط الموجودة او التي يُراد لها ان توضع ،  واصبح مايتوجب تقديمه للمواطن يكون محل مزايدات وحساب من قبل الساسة لما يؤمن حياته الكريمة كباقي البشر ، والجميع يعلم ما تعاني منه الدولة حاليا من ابواب الصرف الهائلة لاسيما على صعيد توفير الامن ودعم القوات المسلحة ورواتب الموظفين والمتقاعدين .
ويبدوا ان هناك قوى اقليمية ودولية تقف حائلا لإصدار القوانين التي تُنظّم الحياة ، وامام تخطي العراق الجديد للعقبات الموضوعة في طريقه ، لتُبقي شعبه فقيراً ثقافةً ومادةً وقانوناً ، وعلى حافة الهاوية في  كافة المستويات ، ودون المستوى المطلوب ، بل يُساهموا احيانا بإصدار الدولة لقوانين غاية في الغرابة .
والله من وراء القصد .