اسمحوا لي ان اطوف معكم اولاَ في جولة سريعة للتعرف على عبودي , صديقي الحميم واللدود, هذه الشخصية المتميزة والمحبوبة , التي اسرتني منذ اللقاء الاول , طريقة كلامه , صوته الرجولي , تعامله التلقائي والشفاف , استراتيجيته الحاذقة في عقد صفقاته, سرعته في حسم الامور , ثقته العالية بنفسه , بل وحتى طريقة أكله المحفزة للشهية والتي تدفع الاخرين للتسابق معه في صراعه الشرس مع الاكلات الدسمة , لاسيما السمك والرز " المطبكَـ ", فلا يترك المائدة والا وقد قضى على آخرها بنهم مذهل وسرعة مثيرة ,تاركاً افواه الاخرين مشرعة على مصرعيها من اثر الصدمة , لاينتظر احد ولايلتفت او يتحدث خلا بعض الاصوات والهمهة التي يصدرها وهو يقضم كل شي بفكيه كقط متشرد وخائف, ربما عيبه الوحيد اللا مبالاة الواضحة في العناية بمظهره ,او نسيانه الاغتسال احيانا من بقايا المرق المرسوم على تلابيبه وصدره كلوحات سريالية متقنة .
فرغم مشاغله الدائمة كان يرافقني كظلي ويترقب خطواتي بحذر مشوب بالقلق, كاشفاً عن اسنان دقيقة صفراء كلما نظرت اليه, ابتسامة تجعلني اتعاطف بحزن مع مخططاته اللعينة التي افهمها جيداً ,واعرف اهدافها , فاهتمامه المفرط باشيائي وترتيبها دون ضرورة لذلك بل وحتى ازعاجي احياناً باثارة الاصوات في الغرفة التي اتخذتها مقراً لي في دارهم عند زيارتي للعراق ,لايدع مجال للشك بمآربه المادية وسعيه الدائم لنيل المطلوب ,لانه يُدرك بالفطرة والتجربة نتائج هذه الممارسات, فسياسته البرغماتية تفرض عليّ قيود صارمة للانصياع التام لمطالبه التي يعتبرها هو واجبات اجتماعية مقدسة , ورغم تقاطع وجهات النظر فيما بيننا الا اننا متفقون على علاقة انسانية وحب متبادل لايفهمه اغلب المحيطين بنا, صداقة تحيط روحي باسوار دافئة من المودة.
وقف ملتصقاً بكتفي في احدى متابعاته وهو يراقب تصفحي لمواقع الانترنت ويتفحص باهتمام صحف الاخبار , لا اتذكر ان كانت صورة احد الساسة العراقيين قد مرت بنا, عندما ادهشني بكلمة اطلقها كحقيقة مسلمة لما يؤمن به والتي تنم عن وجهة نظرعامة وسائدة بالمقاييس العراقية الحالية , نطقها وكأنه يُلقي بحمل اثقل كاهله " اني ماحب المالكي " قالها وارجع جسده ورأسه الى الخلف قليلاً كي يرى بوضوح علامات الدهشة في وجهي مع ابتسامة خفيفة ماكرة في زاوية فمه الصغير , فسألته وانا اضحك لقوله " ليش عبودي شمسويلك المالكي " فلم يحر جواباً لكنه قال " اني احب بس الله " وضاعت جهودي المضنية في الحصول على اجابة مقنعة لكلامه وماهية العلاقة بين حب الله ورجل السلطة ,ربما كانت هناك فلسفة لم يستطع عقلي المحدود احتوائها.
تركني هذا الشقي في حيرة من امري دون ان يوضّح لي ابعاد رؤيته الثاقبة للواقع السياسي المرير , وراح يلعب مع بقية الاطفال في باحة البيت , فهو يعشق "الدعبل " بشكل جنوني حتى ان اصابعة تتخذ دائما شكل الاستعداد لقذف الدعبل, ولم احاول انا بدوري شراء ذمته بربع دينار عراقي مثلا لكسب تعاطفه مع الحكومة اومحاولة لبناء جسور الثقة بينهما, رغم تملكي لمفاتيح قلبه وعقله الذي يذوب حباً بالبطاطا المقلية " الجبس "مع علمي برداءة الانواع التي تُباع في الاسواق العراقية.
انه الاعلام , قال ابو عبودي لي عندما سالته عن موقف ابنه الغريب هذا , وكيف لهذا الصغير الاهتمام بالامور الكبيرة ؟ اذن هذه النتيجة توصل اليها هذا الطفل العراقي الذي لم يبلغ من العمر الا ثمان سنوات, بفضل الاعلام الفاسد الذي يبشر بكل حرية وانفلات بمبادئ الكراهية, دون متابعة او فلترة لمواده الملغومة بالعنف والتطرف, ومن الطبيعي ان تستحوذ هذه القنوات على اهتمام الاطفال بسبب ضخ برامج مسلية لهم بغزارة كافلام كارتون وغيرها من الافلام المصنعة محلياً وخلط السموم معها كمادة للضحك والترفيه, وبذلك يصنعون لنا اجيال لاتجيد الا فن الحقد والقتل والرفض لكل جديد ,فينهض الجيل القادم من نومه صباحاً وهو ناقم من الجميع.
|