لِمَاذَا يُعَادِيْ التَّكْفِيْرِيُّوْنَ تَارِيْخَنَا ؟. |
مَا مِنْ أُمَّةٍ، لا تَعتَزُّ بحضَارَتِها وَ تاريخِها، وَ لا تَهتَمُّ برمُوزِهَا، إِلاّ وَ كانَتْ أُمَّةً تَزرَعُ عناصِرَ انهيارِهَا داخِلَ ذَاتِها، وَ تُجبِرُ التَّاريخَ على نِسيَانِها. وَ بذلكَ يَندرِسُ قِسمٌ مِنْ مَاضِيها، وَ يَضيْعُ جَانِبٌ مِنْ فِكرِهَا وَ ثقَافَتِها وَ تُراثِها. وَ مِثُلُ هَذهِ الأُمَّةِ يَذوبُ حُضُورُها تدريجيّاً، بَيّنَ وجُودِ الأُمَمِ الأُخرى، وَ تصبَحُ أَمَامَ مُفتَرَقِ طَرِيقٍ، أَمّا أَنْ تَكُونَ تَابِعَةً لأُمَّةٍ أُخرى، (أَو أُمَمٍ أُخرى). أَو أنْ تكونَ مُقلِّدَةً لها. وَ فِي كلتا الحالتينِ تَحكُمُ على نفْسِهَا بالتَّبعيّةِ للآخرين. وَ سِياقُ هذا الطّرحِ، لا يُفهَمُ مِنهُ بأَنَّهُ دَعوَةٌ للتَّمَسُكِ بالماضِي، وَ وَضعِهِ أَمَامَ الحَاضِرِ وَ تَطَلُّعَاتِ المُستَقْبَلِ، وَ أَنْ نَترُكَ الحَداثَةِ وَ التَطَوّرِ خَلْفَ ظُهورِنا، فهذا التَصَوّرُ يؤدي إِلى انتحارِ الأُمّةِ، على مسرحِ بنَاءِ حَضَاراتِ الأُمَمِ وَ تَطَوّرِها وَ تَقدُّمِها. لكنَّ الموازنَةَ بيّن التاريخِ و الحداثَةِ، سَيكونُ مُحرّكاً يَدفَعُ الأُمَّةَ، لتَنتَهِجَ طريقاً يُميّزُ هويّتَها، و يُبرِزُ وجودَها بيّنَ الأُمَمِ الأُخرى، على أَساسِ مَا تَملِكُهُ، مِنْ قِيَمٍ وَ أَخلاقٍ وَ آدابٍ وَ فُنونٍ، وَ عُلومٍ وَ مَعارف وَ أَنماطٍ إِنسانيّةٍ، في السِلوكِ الاجتِمَاعيّ. بحيثُ يُنْتِجُ هذا المَزيجُ مِنْ تلكَ العنَاوينِ و تَفرُعاتِها، الثَقافَةَ العَامّةَ للأُمَّةِ. مِنْ خِلالِ هذا المَنظُورِ المُتوازنِ، بَيّنَ احترامِ التاريخِ، وَ مُواكَبَةِ الحَداثَةِ، تكونُ الأُمَّةُ فِي حَالَةِ تَوازنٍ مَعَ الواقِعِ، وَ بعيدَةٍ عَنْ ساحَةِ التَناقُضِ مَعَ كُلِّ جديدٍ، يحصلُ فِي عالمِنَا المتَّسِمِ بالتغيُّراتِ، على مدارِ السَاعَةِ. وَلا يستطيعُ أَحَدٌ أَنْ يَجزِمَ، بأَنَّ الأُمَمَ المُتقدِّمَةِ تَتنَكّرُ لِتارِيخِها وَ قيَمِها وَ مُثُلِها وَ تُراثِها وَ رُموزِها. كَمَا يَتَوَهّمُ البعضُ، فيُعزِي أَسبَابَ تَقَدُّمِ شعوبِ الغَربِ، كانَ بِسَبَبِ تركهم لتاريخِهِم وَ تخلّيهِم عَن ماضِيهِم. وَ لو كانَ الأَمرُ كذلكَ لتوَقَفَ، مُفكّروا وَ زُعماءُ الغَربِ، وَ كِبَارُ السِّياسيّينَ فِي تلكَ الدُّوَلِ، عَنْ الحديثِ حولَ تاريخِ أَسلافِهِم، وَ لمَا وَضَعوا تماثيلَ رُمُوزِهِم، في الشَوارعِ تخليداً لذِكراهُم، وَ لأَحجَمَ البَاحِثونَ مِنْهُمْ، عَنْ دِارسَةِ التّاريخِ أَصلاً. لقَدّْ أَبهرَنِي أَنَّ رِسالَةَ نيّلِ دَرَجةِ المَاجِستيرِ، لوَزيرِ الخارجيّةِ الأَمريكيّةِ الأَسبَقْ (هنري كيسنجر)، كانَتْ دراسةً تاريخيّةً تحليليّةً، لشخصيتيّنِ سياسيّتيّنِ تاريخيتيّنِ، هُما وزيرُ خارجيّةِ المانيا (مترنيخ 1773- 1859م)، وَ وزيرُ خارجيّةِ بريطانيا (كاستلري 1812- 1822م.). اللذانِ حقّقا حالةَ توازنِ القِوَى في أَوربّا، خِلالَ القرنِ الثامنِ عشر. وَ منَعا انّدِلاعَ العديدِ مِنَ الحروبِ فيها، لمُدَّةِ قرنٍ مِنَ الزَمنْ. (طَبعَ (كيسنجر) هذه الرسالةَ و أصبحتْ كتاباً عنوانه (دَربُ السَلامِ الصَّعب)). كَمَا ظلَّ فِي ذاكِرَتِي مُجْمَلُ حديثٍ للمرحومِ الدّكتور حُسين علي محفوظ، عندَما كانَ يتكلمُ عَنْ احترامِ الأُمَمِ لتاريخِها وَ رُمُوزِها، فقالَ مَا مضمُونُهُ: أَنّهُ زارَ إِيطاليا وَ شَاهدَ فِي أَحدِ مَعالِمها الأَثريّةِ، شَخصَاً يَلتَقِطُ الأَحجَارَ الصّغيرةِ، الّتي تتسَاقَطُ مِنْ جِدارِ ذلكَ الأَثرِ، جَرّاءَ الرّياحِ وَ حركةِ الطّيُورِ علَيّهِ. وَ يقومُ هذا الشَخصُ بثَقْبِ هذهِ الأحجارِ، وَ نَظْمِها فِي خَيّطٍ ليَعملَ مِنها قَلائِدَ وَ أَساوِرَ. قالَ الدّكتورُ حسين علي محفوظ: (لقدّ أثارَ اهتمامي عَملُ هذا الشَخصِ. فقلتُ لهُ: لماذا تقومُ بذلك؟. فقالَ الرجلُ: إِنّي أَحفظُ تاريخَ بَلَدِي. قلتُ: بعملِ الأساورِ وَ القَلائِدِ؟. قَالَ: نَعمْ. فَأِنَّ كُلَّ حَصاةٍ وَ حَجَرٍ صغيرٍ، مِنْ هذهِ الأَحْجارِ تُمَثِلُ حُقبَةً مِنْ تاريخ بلدي)(انتهى). أَقولُ: إذا كانَ هذا الشَخصُ يَعتَزُّ بالأَحْجارِ، فكَيّفَ سَيَكونُ اعتِزازُهُ بمفكِرِي وَ رُمُوزِ بَلَدِه؟. مِنْ خِلالِ مَا تقدّمَ، أَرى أَنَّ هناكَ مفارقةً كبيرةً فِي واقِعِنا الإِسلاميّ، تتمَحوَرُ فِي انبهارِنَا بالغَربِ، وَ هوَ يستحقُ ذلك، لمنجزاتِهِ العلميّةِ الّتي أَسهمَتْ في تغييّرِ وَجهِ العَالَمِ، وَ معَ ذلكَ ظَلَّ الغَربُ يَحترمُ تاريخَهُ. وَ المُفَارَقَةُ أَنَّ الكثيرَ مِنّا، يَدعونَ لنَحذُوَ حَذْوَ الغَربِ في الحَداثةِ، لكنَّهُمْ معَ الأَسفِ، يَحتقرونَ تاريخَنا. وَ عِندَنا مُفَارَقَةٌ عَجيبَةٌ أُخرَى، أَنَّ أَتباعَ الفِكْرِ السَلَفِيّ التَكْفِيرِيّ، يَحتَرِمُونَ السَلَفَ الصَالِحِ قوّلاً، وَ لكنّهُم بالوقتِ نَفْسهِ، يحتقرونَ كُلَّ مَعلَمٍ مِنْ مَعالِمِ السَلَفِ الصَالِحِ فِعلاً. عِلماً أَنَّ تلكَ المَعالِمَ تُذَكِّرُ الإِنسانَ المُسلمِ، بتاريخِ ذلكَ السَلَفِ الصَالح. وَ هذا الاتّجاهُ مِنَ التَفكيرِ المُنحرِف، يَتَضَمَّنُ الإجابَةَ على السُؤالِ: لماذا أَقدَمَ آلُ سُعودٍ، على هَدمِ قُبُورِ أَئِمّةِ البقيعِ في الثامِنِ مِنْ شَهرِ شوّال عام 1344ه - 20/4/1926، عندَ سيطرَتِهم على المدينَةِ المُنوّرة؟. ومقبرةُ (بقيع الغَرقد) تَضُمُّ رُفاتَ أَربعةٍ مِنْ أَئِمَّةِ أَهلِ البَيّتِ(ع)، وَ رُفَاتَ عَددٍ مِنْ الصحابةِ وَ التابعين(رض). فهذا المكانُ يوجَدُ فيهِ قبورُ الرُموزِ التّاليَة: 1. قبر الإمام الحسن(ع). 2. قبر الإمام علي بن الحسين(ع). 3. قبر الإمام محمد الباقر(ع). 4. قبر الإمام جعفر الصادق(ع) . 5. قبر فاطمة بنت أسد أم الإمام علي بن أبي طالب(ع). 6. قبر العباس عمّ الرسول(ص). 7. قبر إبراهيم بن رسول الله(ص). 8. قبور اُمهات المؤمنين زوجات رسول الله(ص). 9. قبور بنات رسول الله(ص) زينب و أم كلثوم و رقيّة. 10. قبر إسماعيل بن الإمام الصادق(ع). 11. قبر عثمان بن مظعون(رض). 12. قبر حليمة السعدية(رض). 13. قبر أم البنين قاطمة الكلابية زوجة الإمام علي بن أبي طالب(ع). 14. قبري عمتي رسول الله (ص) صفية و عاتكة. 15. قبور جرحى شهداء معركة أُحد(رض). 16. قبور شهداء واقعة الحَرّة (رض). 17. قبر عقيل بن أبي طالب(رض). 18. قبر عبد الله بن جعفر بن أبي طالب (رض). 19. قبر نافع (مولى عبد الله بن عمر)(رض). 20. قبر مالك بن أنس(رض). 21. قبر الخليفة عثمان بن عفان(رض). 22. قبر أبي سعيد الخدري(رض). 23. قبر عبد الله بن مسعود (رض). 24. قبر سفيان بن الحارث(رض). 25. قبر محمد بن زيد(رض). 26. قبر المقداد بن الأسود(رض). 27. قبر عبد الرحمن بن عوف(رض). 28. قبر أسعد بن زرارة(رض). 29. قبر الخنيس بن حذافة(رض). 30. بيت الحزان بالبقيع و هو مسجد اُبي بن كعب(رض). ((باختصار) من معجم المؤلفات الاسلامية في الرد على الفرقة الوهابية / عبد الله محمد علي/ ص/127). وَلَمْ يقِفْ الحِقدُ التكفيريّ الوهابيّ عندَ هذا الحدِّ، بَلْ تَجَرَّأَ أتباعُهُ على هَدمِ بيّتِ النَّبي(ص)، وَ الذي كانَ يُطلقُ عليه اسمُ بيّتَ خديجة(رض) في مكةَ المكرّمة. وَ كانتْ في هذه الدّارُ، حِجرةً صغيرةً يَجلسُ فِيها رسولُ الله(ص) عندَما كانَ يأتيهِ الوَحي. وَ هلْ يَعلمُ المسلمونَ أَنَّ آلَ سعودٍ، بَنُوا مرافقَ صحيّةٍ وَ حمّامَاتٍ، على بيّتِ خديجة(رض)؟. (للمزيدِ مِنَ المعلوماتِ عَنْ هذا الموضوع، الاستماعُ لتسجيلات الفديو، للمهندس المعماري الدكتور سامي العنقاني، الموجودة على شَبكةِ اليوتيوب). ختاماً: أَنَّ الغايةَ الخفيّةَ، التي تقِفُ وَراءَ مقاصدِ الفِكْرِ الوهابيّ التكفيريّ، هوَ تغييبُ كلّ ما يُذكّرُ الأُمَّةَ برموزِها. و محاولةُ قَطْعِ علاقَةِ تفكيرِ الإِنسانِ المُسلمِ، بالاتّصالِ مع أَفكارِ وَ مواقِفِ تلكَ الشَخصيّاتِ، وَ يَقعُ أَئِمّةُ أَهلِ البَيّتِ(ع)، فِي مُقدِّمَةِ قائِمَةِ الحَظرِ الوهابيّ. التي يخافُ التكفيريونَ مِنْ رُمُوزِها، لأَنَّ مبادِئَ أَئِمَّةِ أَهلِ البَيّتِ(ع)، وَ أَخلاقَهُم وَ سلوكيّاتَهُم، تتناقضُ تماماً معَ سلوكيّاتِ وَ أَفكارِ التّكفيريّين. إِذَنْ هِي عمليّةُ عزلٍ فكريّ وَ ثقافيّ وَ عقائديّ وَ قِيَميّ مُمَنهجَةٌ، استخدَمَها السلفيّونَ التكفيريّونَ، لمنعِ أَبناءِ الأُمّةِ مِنَ التَواصلِ معَ أَفكارِ تلكَ الرُموزِ، الّتي تدعو الإِنسانَ للتحرُرِ، مِنْ عبوديّةِ الطّواغيتِ، وَ اشاعَةِ روحِ العَدلِ وَ المساواةِ بيّنَ الجميع. وَ مِنَ البَديهيّ، أَنَّ فَتوَى (ابن بليهد) لهدمِ قُبُورِ مَقبَرَةِ البَقيعِ، جاءَتْ بإيعازٍ مِنْ رأس السُلطةِ، (عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود 1876- 1953)، الّذي أَسّسَ مَملكتَهُ، تحتَ رِعايَةِ وَ دَعمِ المخابراتِ البريطانيّةِ. إِنَّ تَغييبَ مَقبرَةِ (بقيع الغَرقَدْ) عَنْ عُيُونِ المُسلمينَ، هِيَ فُرصَةٌ لِتَضْييعِ جُزءٍ مِنَ التَاريخِ الإِسلاميّ عَنهُم. هذهِ هيَ سيَاسَةُ الاستعمَارِ لتَجهيْلِ الشّعُوبِ، وَ مَحوِ أَيِّ أَثرٍ قَيّمْ مِنَ الذّاكرةِ الجماعيّة للأُمَّةِ، وَ عَزلِهَا عَنْ حَضَارَتِها. كلُّ ذلكَ جُزءٌ مِنْ مُخَطَطٍ يَرمي، لتكونَ أُمَّةُ الإِسلامِ أُمَّةً مُنهزِمَةً مُتخاذِلَةً مُتصَارِعَةً فيمَا بيّنَها، مُتنَازِلَةً عَنْ حقوقِها، غَارِقَةً في استهلاكِ كُلِّ مَا يُقدَّمُ إِليّها، مُتمَسِكَةً بالمَظهرِ تَارِكَةً الجَوهَرَ، مُنقَطِعَةٌ عَنْ جُذُورِها وَ تارِيخِها وَ حَضارَتِها، وهذا مَا تَمَّ فِعلاً. وَ الآنْ؛ ينبَغي على المُثقَّفِينَ وَ المُفكرينَ مِنْ أَبناءِ الإِسلامِ، أَنْ يقُودوا حملةً للمطالبَةِ بإِعادَةِ بناءِ آثارِ مقبرةِ البَقيعِ، وَ يُناشِدُون مُنظمةَ الأُمَمِ المُتّحدَةِ للتربيةِ وَ العِلمِ وَ الثَّقَافَةِ (اليونسكو)، لدَعمِ كُلِّ جُهدٍ يَرمي، لإعادَةِ بِنَاءِ أَضرِحَةِ أَئِمَّةِ البَقيْعِ(ع). باعتبارِهَا إِرثاً حضاريّاً إِنْسانيّاً، أَسهَمَ المَدفُونُونَ فِيها، فِي صِنَاعَةِ الحَضَارَةِ الإِسلاميّةِ خَاصَةً، و الحَضَارَةِ الإِنسانِيّةِ عَامّةً، في مرحلةٍ تاريخيّةٍ مُعيّنةٍ. لا سيّما أَئِمَّةُ أَهلِ البَيّتِ(ع)، الّذينَ أَسّسوا مَدرسَةَ الحِكمَةِ وَ التَّسَامُحِ وَ الانْفتَاحِ عَلى الآخرين وَ نَبذِ العبوديّةِ وَ الكراهيّةِ بيّنَ البَشَر. هذهِ المَدرسَةُ احترمَتْ آدميّةَ الجَميع، كمَا جَاءَ فِي قَوّلِ الإِمامِ عليّ(ع): (الناسُ صنفانْ، أَمّا أَخٌ لكَ فِي الدِّينِ، أَو شَبِيْهٌ لَكَ فِي الخَلْق). وَ يَجِبُ أَنْ لا يَنسَى العَالَمُ، أَنَّ العَدِيدَ مِنَ العُلومِ، قدّ أَسْهَمَ فِي إِرساءِ دَعائِمِها أَئِمَّةُ أَهلِ البَيّتِ(ع)، وَ مِنْها عِلْمُ الكِيْميَاءِ، الّذي وَضَعَ أُسُسَهُ الإِمامُ الصَّادِقُ(ع)، وَ تَعَلَّمَ مِنْهُ(ع) جابرُ بن حيانَ الكوفيّ، قوانينَ هذا العلم. وَ مِنَ اللهِ تَعالى نَرجُو التّوفِيق. |