أبو نؤاس يعود إلى بغداد بعد نكبة برامكته ، ورحلته المصرية، فيمدّ للرشيد يد المدح الرسمية |
مقدمة لما قبل الهجرة إلى مصر ومديحه - ١٢ لم يشر لنا الديوان على أن أبا نؤاس مدح الرشيد منذ قدومه بغداد حتى نكبة البرامكمة في سنة 187 هـ، وإنما حصر مدحه بالبرامكة أولياء نعمته ، ومن خطل التفكير ، وقصر الرؤية ، وعدم البصيرة أن نردد الأقاويل والرويات المنحولة التي تربط بقوة وشائج علاقة ظرافة وطرافة بين الرشيد الصارم الشديد والنؤاسي المتهتك الخليع ، وذكر أبو نواس هذا المدح المنحصر بآل برمك ، ونعني يحيى وولديه، في رواية ينقلها أبو هفان في ( أخبار أبي نواس ) ، " قال أبو هفان: دخل أبو نوّاس على يحيى بن خالد فقال له يحيى أنشدني بعض ما قلت، فأنشده : تأبى الصنائع همتي وقريحتي*** من أهلها وتعاف إلا مدحكا " (27) لا يمكن للشاعر أن يتجرأ بقول مثل هذا البيت الأخير ، لو كان قدح الخليفة ، هذه زلّة كبيرة ، لا يمكن أن يغفرها الرشيد ، لو كان قد مدحه من قبل ، ولا هذا اليحيى البرمكي ، كان سيقبلها واضعا نفسه فوق مقام الخلافة ، وكان للشعر دور كبير في المجتمع ، وللقصر الخلاقي عيون وعيون ، شغلهم الشاغل مثل هذه الهنات . أنت على ما بك من قدرةٍ*** فلست مثل الفضل بالواجد ليس على الله بمستكثرٍ *** أن يجمع العــــالم في واحدِ طبعاً البيت الأخير ، يقصد فيه الشاعر الرشيد ، ولكن الهدف الأساسي الدفاع عن (الفضل) المفضل مادياً ورعاية لديه !! ويروى أنّ مغنيه غنّت قصيدة لعمربن ابي ربيعة أمام هارون بإيعاز من حاقدين على البرامكة ، مطلعها : ليــت هنــدا أنجزتنــا مـا تعـد **** وشـــفت أنفســنا ممــا تجــد واســــتبدت مـــرة واحـــدة ***** إنمــا العــاجز مــن لا يســتبد فلما سمعها الرشيد وعى الرسالة ، واخذ يرددها متوعداً حتى نكبهم ، فالرجل الرشيد أصبح هو الأول والأخير لمهام الخلافة ، وإصدار قراراتها ، ووزيره الفضل بن الربيع يساعده ، وأخذ هذا الربيع يحاول التقريب بين الشاعر الماجن الشهير ، والخليفة الحاج الغازي الخطير، سنأتي عليها بعد هذه الرواية العجيبة الغريبة. 13 - رواية للعاصمي عن أبي نؤاس والرشيد من نسج خيال ألف ليلة وليلة : يروي العاصمي في (سمط نجومه) : أدخل الفضل بن يحيى أبا نواس إلى عند الرشيد،فقال له الرشيد: أنت القائل: من مجزوء الرمل : عتقت في الدن حتى ***هي في رقة ديني إمام يخاف الله حتى كــــــأنه ***** يؤمل رؤيــــــاه صباح مساء نكتفي بهذا مما أورده العصامي ، جزماً هذه الرواية موضوعة على غرار قصص ألف ليلة وليلة ، لا يعقلها عاقل أن يطيل خليفة مثل هارون الرشيد الحاج الغاز مع شاعر ماجن على المكشوف ، ويدور مع الشاعر أنّى دار لإلقاء الحجة عليه ، ومن يصدق أن أبا نؤاس - وهو الشاعر المتهتك - أن يلاسن الخليفة ، ويحاججه ، ويفحمه ، ويتدخل الفضل لحسم الموضوع ، ويخرج الشاعر قصيدته ، ويمدح الرشيد ، وتنقلب الأمور بالتمام ، فمن عقوبة قطع الرأس حتى الجائزة السنية ، ومعها جارية كالشمس ، ثم القصيدة الهمزية التي مدح بها الرشيد ، نظمها الشاعر بعد نكبة البرامكة ، فمن أين جاء هذا الفضل بن يحيى ؟!! نقلنا نحن الجزء الأكبر من الرواية ، لما فيها من شعر جميل لأبي نؤاس ، والتحليل ، والمقارنة ، والسرد الخيالي الجميل . 14 - ثلاث قصائد في مدح الرشيد : بعد أن توّسط الفضل بن الربيع بين الشاعر وخليفته الرشيد سنة 187 هـ أبان عودته إلى بغداد ملذاته ، وكان الرشيد المتجبر المستبد المرهوب يحشّد جيوشه ليحارب الروم وقائدهم البيزنطي الشهير نقفور ، وعند انتصار الرشيد المبهر ، وإذلال نقفورهم ، كل الأمور وظفت لمعركة الانتصار ، ولا ريب كان الشعر من أهم الأسلحة ، وكان أبو نؤاس من أبرز شعراء عصره ، فمدح الرشيد بقصيدة رائعة منها : خلق الزمان وشرتي لم تخلق *** ورميت في غرض الزمان بأفوق وبالرغم مما قيل على أنّ البيت الأخير فيه تجاوز على مشيئة الذات الإلهية ، ولكن - والحق يقال - يعتبر قفزة شعرية هائلة في سعة الخيال بالنسبة لعصره ومدى معرفة في ماهية النطف وتركيبها وفسلجتها. والقصيدة الثانية هي الهمزية التي مر ذكرها في رواية العاصمي ، وزعم خياله أن الفضل بن يحيى البرمكي أدخل أبا نؤاس على الرشيد ، ودار ما دار بينهما ، وزجّ بالقصيدة الهمزية ، والحقيقة القصيدة الهمزية نظمها شاعرنا بعد نكبة البرامكة بعامين ) ، وتحديداً كما يذكر الطبري في أحداث سنة 189 هـ بـ (تاريخه) ، وعند تنصيب ابنه القاسم ولياً للعهد بعد الأمين والمأمون ، وأطلق عليه المؤتمن ، ويذكر البيتين التاليين منها : تبارك من ساس الأمور بقدرة **** وفضل هـــارونا على الخلفاء القصيدة الثالثة نظمها شاعرنا سنة 190 هـ ، وذلك عندما اتّخذ الرشيد قلنسوة ، مكتوب عليها (غاز حاج)، ومطلعها : حيّ الديار إذ الزمان زمان **** وإذ الشباك لنا حرى ومعانُ ويأتي بعد عدّة مقاطع على مدح الرشيد ، وتبيان مدى عدله : إلى أبي الأمناء هارون الذي *** يحيا بصوب سمائه الحيوان ومع كل هذا المديح الرسمي للخليفة الرشيد في المناسبات العامة ، حيث لم يجعله الخليفة من جلسائه ، لم تأخذه لومة لائم في إيداع الشاعر الكبير في السجن إذيذكر ابن عساكر في (تاريخ دمشقه) :وقد اتهم الشاعر ابونواس بالفساد والزندقة ودخل هذا السجن، ولم يطق الحياة فيه في عهد الرشيد فأرسل استعطافا الي الرشيد حتي يفك سجنه.. يقول في رسالته تلك فاني لم اخنك بظهر غيب *** ولاحدثت نفسي ان اخـونا (31) نبرر للرشيد فعلته مع أبي نؤاس ، وفق مقاييس الدين والعصر ، بما ذكره ابن عساكر في (تاريخ دمشقه) بسند عن أحد الرواة من أصحاب الشاعر - مع بعض التصرف اعتماداً على تاريخ بغداد للخطيب - : كان أبو نواس يشرب عند عبيد بن النمضر فبات ليلته ثم قال لا بد لي من (عسى) فقوموا بنا فاتيناها ودخلنا حانة خمارقد كان يعرفه ومعه غلام قد كان افسده على ابويه وغيبه عنهما ونحن في موضع اطيب موضع فذكرنا الجنة وطيبها والمعاصي وما يحول منها وهو ساكت فقال : يا ناظرا في الدين ما الأمرُ ***** لا قدر صح ولا جبرُ ما صح عندي من جميع الذي ** تذكر إلا الموت والقبرُ فامتعضنا من قوله واطلنا توبيخه فأعلمنا أنا نتخوف صحبه فقال ويلكم والله أني لاعلم ما تقولون ولكن المجون يفرط علي وارجو أن اتوب فيرحمني الله عز وجل ثم قال : أية نـــار قدح القادح *** وأي جد بلغ المازح؟ (32) ويذكر الأبيات التي أوردناها في رواية العاصمي ، ويعصمنا الله من كل مكروه ، وإليه ترجع الأمور ، ونحن بإذنه سنرجع إليكم مع الحلقة الخامسة ، شكرا لكم .
|