دكتور ! كِلية لأبي والأخرى لي !

 

 

هذه أخر جملة تفوه بها الأبن البار بأبيه قبل إجراء العملية وهو يبتسم : " دكتور ! كلية لأبي والأخرى لي " فتوكل على الله.

عادة لا أحبذ عنونة مقالي بشخصية معاصرة، مهما بلغ بها صعود القمم، إعلاميا أو مادياً أو اجتماعياً، لكن أنحنى قلمي أمام هذا الحدث الإنساني ، وتنهدت نفسي على أطلاله ، فأي إنسانية جسدتها أيها الأبن الحنون ؟

بطل القصة الشاب هيثم حسن البراهيم من منطقة الأحساء ، والمكان مستشفى الملك فهد التخصصي بمدينة الدمام شرق المملكة العربية السعودية، والزمان قبل يومين فقط من كتابة هذه السطور .

لقد دمعت عيناني عند سماع الخبر ، فوالد الشاب مصاب بفشل كلوي وراثي منذ حوالي سنتين ، وقد تضاف المرض حتى بلغ مرحلة الفشل ، وتمت التحضيرات لزراعة كلية من متبرع سواء من خارج أو داخل الوطن ، فحدثت بعض العوائق والظروف التي حالت دون ذلك ، فحان وقت العملية ، أو سوف يقف الحاج حسن والد الشاب عند حافة الهاوية لا سمح الله.

فاجأ أبنه هيثم الجميع ، وقرر أن يعطي أباه كلية ، فلديه اثنتين ! وحتى وأن كان المرض وراثي بالعائلة ، دعني أرد بعض الجميل لأبي ، فكليتي قليلة في حقه ، فهو يستحق روحي وجسدي كله ، ودعنا نستلهم من بركات وجوده ، فهو أب حنون وعطوف على كل من حوله ، له بصمات اجتماعية بلغت القاصي والداني على أبناء منطقته ومجتمعه ، فخذ كليتي يا أبي !

لقد أدمعت عيناي ياهيثم ! أي والله ، فقرار التبرع بقطعة لحم من جسدك ليس بالقرار الهيـّن ، فكثير من الحالات الشبيهة لحالة الحاج حسن ، لذكور وإناث ، ووصولهم مراحل صعبة من حياة المرض ، والجميع يلتزم الصمت ، وخاصة من يحق لهم التبرع بكلية لإنقاذه ، فتمت العملية ، وأقتسم هيثم الكليتين ، فأصبحت واحدة مع أبيه ، والأخرى معه ، وكأن التي مع أبيه تقول " رجع الفرع الي الأصل " ، وكأني بهيثم الإنسان يسير خلف أبيه أو يجلس معه ويرى قطعة منه بجسد أبيه " يا له من إحساس جميل لا يوصف "

هنا أحبتي تتجلى الصفة الأخلاقية الكبرى ، والتي تتربع على شجرة العطاء الإنساني ، وهي " الإيثار " ، وهو يختلف عن الكرم والجود ، فالإيثار أن تعطي من نقص ، أو لعدم وجود الفائض ، والكرم أن تعطي بوجود الفائض والزيادة ، فما بالك الإيثار بجزء من لحمك ودمك. صدقوني الأمر ليس بالهيـّن ، ولا أستطيع أن أترجمه بحروف أو كلمات هنا ، وخاصة إن بالقضية حياة أو موت .

وقيل في الإيثار ، هو صفة لتصرف قام به شخص لا يعود بالفائدة عليه بل على غيره ، وتفضيل راحة ورفاهية الآخرين على الذات ، فالإيثار عكس الأنانية ، ويختلف معنى الإيثار عن الولاء أو الواجب ، فمفهوم الإيثار يتمركز حول الدوافع التي تقود لعمل الخير للآخرين دون مقابل ، بينما يتمركز مفهوم الواجب حول الالتزام الأخلاقي تجاه شخص ما ، لمفهوم مجرد ، كالواجب الديني أو الوطني ، وقد يشعر البعض بمزيج بين الإيثار والواجب ، بينما لا يدمج آخرون بين الاثنان معاً .. فالشعور بالإيثار المجرد هو عبارة عن العطاء دون انتظار لمقابل أو جائزة أو منافع أخرى تكتسب كرد فعل مباشر من الشخص المستفيد.

وعلى سبيل المعرفة في بحر الإيثار والعطاء ، تذكرت قصة للإمام علي " عليه السلام " ، فحياته حافلة بقصص الإيثار ، ولما لا ، وقد تجلت في شخصه حياة النبل والخلق الجميل وهو التلميذ الأول لمعلم مكارم الأخلاق العظيم صلى الله عليه وآله وصحبه الكرام ، ففي يوم ما طلبت زوجته السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام شيئاُ وخافت أن تكون عليه مشقة ، فأصر عليها زوجها ما تريد ، فطلبت منه رماناً فخرج لكي يأتي بالرمان ، وعندما كان في طريق عودته كان بحوزته رمانتين ، فطلبه سائل بأن يعطيه إحداهما ، فأعطاه أياها ، فطلب الأخرى لأبنائه ، فقال أبا الحسن في نفسه إن رب الزهراء كريم فأعطاه الأخرى ، ورجع الي البيت ، ولكن المفاجأة كانت عندما رأى الرمان أمام الزهراء فسألها عمن أحضره فقالت أحضره رجل وقال هذا من علي .

بوركت أخي هيثم ، وجزاك الله منا خير الجزاء ، فأنت خير قدوة وخير قصة وخير عضة ، فياليت الشباب يقتدون بك ، وياليتهم يتوقفون عند أثرك ، فالشكر فيك قليل ، ومكامن الخير في دهاليز خصالك دليل ، ولا ُيعرف المرء إلا من بصماته ، فالأثر يدل على المسير، وما أطيب وأحسن مسيرتك وآثارك ، وبوركت أم أنجبتك وأباً أنت من صلبه ، وكلمة لكم إخوتي الشباب : نحن لانطلب منكم إعطاء أبائكم قطعة من أجسادكم ، فالقضية ليست بعين أو كلية أو رئة تتبرع بها ، بل معرفة قيمة الوالدين والبر بهما ، وأقلها صلة الرحم ، والخضوع لهما أثناء الحديث معهما، ورد بعض الجميل ، وخاصة عند مرضهما أو عند بلوغهما الكبر ، قال تعالى بسم الله الرحمن الرحيم : }وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا . وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا } الإسراء/23-25