شناشيل : بيان أم رسالة تهديد؟



يبدو أن وزارة الداخلية اقتنعت أخيراً بانه يتعين على مسؤوليها الكبار أن ينزلوا من عليائهم ويتواضعوا ويتصرفوا بوصفهم موظفين في الدولة التي هي دولة الشعب وليست اقطاعيتهم الخاصة، فيخاطبوا الشعب أو فئات منه، وإن في صيغة الوعيد المغلف بالشعارات.
لكن الوزارة التي صمتت دهراً، وبخاصة حيال مسيل الدم المتدفق من العراقيين، نطقت كفراً في البيان الذي اصدرته أمس بشأن التظاهرات المزمع إجراؤها يوم السبت المقبل للمطالبة بإلغاء أو الحد من الامتيازات الكبيرة الممنوحة لأعضاء مجلس النواب وسواهم من مسؤولي الدولة الكبار، وباصلاحات في العملية السياسية وادارة الدولة وخاصة في مجالي الأمن والاقتصاد.
الوزارة تقرّ، في بيانها، بالحق المكفول دستورياً في التجمع والتظاهر والتعبير عن الرأي، لكنها تريدنا ألا نتمتع بهذا الحق بحجة ان "ظروف البلاد العصيبة والتحديات الأمنية الجسيمة واكتظاظ شوارع وساحات العاصمة الحبيبة بسبب الإجراءات الاحترازية" لا تسمح بهذا الآن، وان "هناك من يتربص بالمواطنين الدوائر ويحرص على استهدافهم باعتداءات اجرامية دموية تزيد المشهد الأمني والسياسي في البلاد تعقيداً، وتضيف الى البلاد مشاكل القلاقل والفتن التي هي في غنى عن المزيد منها"، وان "مطالب من يريد التظاهر قد وصلت إلى أسماع السلطات السياسية والتشريعية والتنفيذية في البلاد"!
بعيدا عن الكلمات المنمقة والجمل الإنشائية المثقل بها البيان، فانه في الواقع رسالة تهديد للذين يعتزمون التظاهر يوم السبت المقبل. التظاهر غير مسموح به، ولكن ليس أي تظاهر... التظاهرات التي يتذكر منظموها فجأة القدس المحتلة ويومها ذريعة لرفع صور الزعماء الأجانب الاحياء والأموات، مسموح بها، فالمنظمون هنا موالون، والولاء لدولة الرئيس مُقدّم على كل حق دستوري.. وقبلها استعراضات الميليشيات مسموح بها أيضاً، بل مرغوب فيها بشدة لأنها تنطوي على رسالة تهديد وإغاظة الى المنافسين والخصوم.
في عرف الداخلية ومَنْ وراءها، تظاهرات الموالين واستعراضات الميليشيات (البديلة) تجري في الفضاء الخارجي، فلا تؤثر أو تتأثر بظروف البلاد العصيبة والتحديات الأمنية الجسيمة ولا علاقة لها باكتظاظ الشوارع والساحات في العاصمة "الحبيبية" (أعجبني كثيراً هذا التعبير الصادر عن وزارة الداخلية التي لديّ فكرة متأصلة عن أنها والحب في خصومة منذ الأزل والى الأبد).
من دون تظاهرات ومن دون اعتصامات ومن دون استعراضات لغير الموالين، يمارس الإرهابيون براحة وحرية طقوس القتل والتدمير يومياً .. نعم يومياً من دون أي مبالغة، والداخلية، ومعها الدفاع ، تظهر مستسلمة وخانعة وخاضعة لما يبدو انه قدر محتم للعراقيين. وإذ نتفحص نجد ان خيوط هذه الراحة والحرية تمتد الى التواطؤات الجارية في الداخل. فبماذا ينفع عدم التظاهر الذي تريده الداخلية؟
رسالة التهديد وصلت.. ولا أظن أنها ستفتّ في عزيمة الشباب الفائر دمه من اجل وطنه ومستقبله ومصيره الموضوعة جميعاً على كف عفريت للعام العشر على التوالي.