والسماء رفعها ووضع الميزان... بقلم/ عبد الله بدر اسكندر

 

الأدوات المتعارف عليها في قياس الأوزان، أو ما يطلق عليها (وحدات قياس الأوزان) تخضع جميعها لقانون يتميز من خلاله نوع المعايير المستخدمة في هذا النظام، كما هو الحال في وزن الأجسام المادية بشتى أنواع الآلات المستخدمة في هذا المجال، بحيث لا تتأرجح كفة على حساب الأخرى إلا بما يظهر ثقل أو أفضلية أحدهما ضمن عملية مقدرة دون زيادة أو نقصان، أما في حالة حصول ما يخالف هذا النظام فإن الأنظار ستوجه إلى التدخلات الخارجية التي يقوم الإنسان بصنعها بما لا يتناسب مع الضوابط المتفق عليها ضمن ترتيب يعلمه المختصون بهذا القانون.
 
وهذا النظام المصغر يعتمد في تشريعه على القانون الكوني الكبير باستثناء العبثية التي أشرنا لها، باعتبار أن ما تحمله السماء من مكونات لا يمكن أن تستقيم إلا بخضوعها للقوانين الحسابية الدقيقة، وأنت خبير بأن حدوث الاختلاف في المعادلات الكونية سيؤدي إلى انتفاء أجزاء الكون مما يفضي إلى زوال الحياة في جميع الكواكب (إن وجدت) ولهذا يقول الحق تبارك وتعالى: (والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون) الحجر 19.
 
والموزون: يعني المقدر من ناحية الطول والحجم، أو ما تحتاجه تلك الأشياء من مياه ونور ودرجات حرارة، وغير ذلك من المكونات التي تجعل النبات والجماد يؤدي وظيفته المخلوق من أجلها على أتم وجه، ومن هنا يظهر سبب قوله تعالى: (من كل شيء) بدلاً من أن يقول من كل نبات، ليشمل جميع المحتويات التي تتكون منها الأرض. وعند تأملنا لهذا النظام الدقيق نجده خاضعاً لعملية حسابية غاية في الدقة والتنظيم، كما بين ذلك تعالى في مطلع سورة الرحمن التي صدرها بتعليم القرآن عاطفاً عليه مجموعة من الآلاء التي أنعم بها على خلقه، ابتداءً من خلق الإنسان وتعليمه البيان، مروراً بالآلاء الحسية التي ذكر منها الشمس والقمر والنبات الذي لاساق له والشجر المعطوف عليه، وصولاً إلى رفع السماء ووضع الميزان.
 
من هنا يظهر أن العدل الإلهي هو الذي رمز له تعالى بالميزان ثم عطفه على تعليم القرآن وأنزل من أجله الكتب تفريعاً على بعث الرسل، ومن هنا ظهرت النكتة في قوله تعالى: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) الحديد 25. وكذا قوله: (الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان وما يدريك لعل الساعة قريب) الشورى 17. فإن قيل: ما وجه تناسب ذكر الساعة مع الميزان؟ أقول: لا تقوم الساعة إلا إذا اختلفت موازين الأرض وانتشر فيها الظلم والجور، بحيث يصبح الخائن مؤتمن والفاسق مستشرف مما يؤدي إلى ظهور الفواحش ونقض العهود والمواثيق، حتى تلد الأمة ربتها، كما في الروايات المتفق عليها، عند ذلك يظن الإنسان أنه قادر على احتواء الأرض، كما أشار إلى ذلك تعالى بقوله: (حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون) يونس 24.
 
وبهذا يتحصل أن الميزان الذي وضعه الله تعالى هو المقياس المعنوي للعدل الذي أمر سبحانه الناس أن يأخذوا به، بما يضمن سلامة الأرض التي وضعها للأنام، ولهذا فإنه (جل شأنه) يوجه الإنسان في حالات استعماله للعدل التشريعي إلى الوفاء بالكيل والميزان سواء كان ذلك مادياً أو معنوياً، كما في قوله تعالى: (وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفساً إلا وسعها) الأنعام 152. وقوله: (فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين) الأعراف 85.
 
وبالإضافة إلى ما مر فقد حذر تعالى الإنسان من أن يميل سلباً في حالات الحكم وعند الشهادة، كما في قوله: (ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) المائدة 8. وقد قابل تعالى هذه الآية بالتزام العدل في الميول الايجابية، وذلك في قوله: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً) النساء 135.
 
وبناءً على ما سلف يظهر أن التناسب الدقيق الذي أشارت له سورة الرحمن يدلل على أن الموضع الذي ذكر فيه الميزان، يحمل العديد من اللطائف القرآنية، فقد بدأت السورة بالوزن المحكم الذي لا مثيل له سواء في الشعر أو النثر، وكما هو ظاهر في تقديمها تعليم القرآن على خلق الإنسان، وبعد ذلك أخذت بتعداد النعم والآلاء التي إمتن بها تعالى على الإنسان، في أروع تقابل وألطف بيان، ثم أشارت إلى المتقابلات الحسية، بين الإنسان والجان والشمس والقمر، والنجم والشجر، وهذا النظام القويم الذي يربط الدنيا بالآخرة، نجده قد تمثل بالآلة التي تجعله لا يحيد عن الاستقامة وهذه الآلة (على تعبيرنا) هي الميزان الذي يرسم العدل الإلهي في أروع صوره المشابهة للخروج من القوة إلى الفعل، كما في قوله تعالى: (والسماء رفعها ووضع الميزان) الرحمن 7. وفي الآية مجموعة من المباحث أعرض لها:
 
المبحث الأول: قال القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: (والسماء رفعها) قرأ أبو السمال (والسماء) بالرفع على الابتداء واختار ذلك لما عطف على الجملة التي هي (والنجم والشجر يسجدان) فجعل المعطوف مركباً من مبتدأ وخبر كالمعطوف عليه، الباقون بالنصب على إضمار فعل يدل عليه ما بعده (ووضع الميزان) أي العدل، عن مجاهد وقتادة والسدي، أي وضع في الأرض العدل الذي أمر به، يقال وضع الله الشريعة، ووضع فلان كذا أي ألقاه، وقيل على هذا الميزان القرآن، لأن فيه بيان ما يُحتاج إليه، وهو قول الحسين بن الفضل، وقال الحسن وقتادة أيضاً والضحاك: هو الميزان ذو اللسان الذي يوزن به لينتصف به الناس بعضهم من بعض، وهو خبر بمعنى الأمر بالعدل، يدل عليه قوله تعالى: (وأقيموا الوزن بالقسط) والقسط العدل، وقيل هو الحكم، وقيل أراد وضع الميزان في الآخرة لوزن الأعمال. انتهى. وما نسبه إلى الحسين بن الفضل من أن الميزان هو القرآن فيه نظر، اللهم إلا إذا أراد أن يجعله من مصاديقه إلا أنه لم يبين ذلك.
 
المبحث الثاني: يقول البيضاوي في أنوار التنزيل: (والسماء رفعها) خلقها مرفوعة محلاً ومرتبة، فإنها منشأ أقضيته ومتنزل أحكامه ومحل ملائكته، وقرئ بالرفع على الابتداء، (ووضع الميزان) العدل بأن وفر على كل مستعد مستحقه، ووفى كل ذي حق حقه، حتى انتظم أمر العالم واستقام، كما قال (عليه السلام) بالعدل قامت السماوات والأرض، أو ما يعرف به مقادير الأشياء من ميزان ومكيال ونحوهما، كأنه لما وصف السماء بالرفعة من حيث إنها مصدر القضايا والإقرار، أراد وصف الأرض بما فيها مما يظهر به التفاوت ويعرف به المقدار.. ثم أضاف البيضاوي: (ألا تطغوا في الميزان) لئلا تطغوا فيه، أي لا تعتدوا ولا تجاوزوا الإنصاف، وقرئ لا تطغوا على إرادة القول.
 
المبحث الثالث: قال الطباطبائي في الميزان: (والسماء رفعها ووضع الميزان) المراد بالسماء إن كانت جهة العلو فرفعها خلقها مرفوعة، لا رفعها بعد خلقها، وإن كان ما في جهة العلو من الأجرام فرفعها تقدير محالها، بحيث تكون مرفوعة بالنسبة إلى الأرض بالفتق بعد الرتق، كما قال تعالى: (أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما) الأنبياء 30. وإن كان المراد ما يشمل منازل الملائكة الكرام ومصادر الأمر الإلهي والوحي فالرفع معنوي أو ما يشمل الحسي والمعنوي.
 
ثم يضيف: وقوله: (ووضع الميزان) المراد بالميزان كل ما يوزن أي يقدر به الشيء أعم من أن يكون عقيدة أو قولاً أو فعلاً، ومن مصاديقه الميزان الذي يوزن به الأثقال، قال تعالى: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) الحديد 25. فظاهره مطلق ما يميز به الحق من الباطل والصدق من الكذب والعدل من الظلم والفضيلة من الرذيلة، على ما هو شأن الرسول أن يأتي به من عند ربه. وقيل المراد بالميزان العدل، أي وضع الله العدل بينكم لتسووا به بين الأشياء بإعطاء كل ذي حق حقه، وقيل المراد الميزان الذي يوزن به الأشياء والمعنى الأول أوسع وأشمل. انتهى ما ذهب إليه الطباطبائي.
 
فإن قيل: لماذا وضع الله تعالى الظاهر موضع المضمر في الآيتين اللاحقتين لآية البحث؟ بتعبير آخر لماذا قال: (ألا تطغوا في الميزان) الرحمن 8. بدلاً من أن يقول: ألا تطغوا فيه، وقال: (وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان) الرحمن 9. بدلاً من أن يقول: ولا تخسروه؟ أقول: أراد تعالى في آية البحث مفهوم الميزان الذي تتفرع عليه المصاديق، كما قدمنا وكما أشار إلى ذلك الطباطبائي أيضاً، أما في الآية الثامنة فأراد تعالى بالميزان النوعية المعرفية للتعامل بين الناس، وذلك ظاهر من تصدر الآية للنهي بعدم الطغيان في الميزان، أما الآية التاسعة فتشير إلى خصوصية المواد الموضوعة في الميزان، لذا اقتضى التكرار في اللفظ والاختلاف في المعنى، وبهذا يكون السياق المفصل نظير قوله تعالى: (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشراً ونذيراً***وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلاً) الإسراء 105. 106. أي أن الله تعالى قد أنزل القرآن بالحق ونزل حاملاً لمنهج الحق.