حرق المكتبات وتدمير الآثار

 

 

 

 

 

 

النجف الأشرف: يوجد اختلاف ليس بالكبير في تعريف الحضارة، ولكنه اختلاف مهم وجوهري، فهل أن الحضارة هي البناء كالأهرامات أو زقورة أور؟، في الواقع إن حضارة مؤسسة كحضارة وادي الرافدين لم تشتهر بالبناء فقد كان الحرفيون يستوردون من خارج العراق القديم، وهذا طبيعي بحكم فقدان العراق الجنوبي للمواد الأولية التي يمكن أن تشيد بها البنيات سواء كانت المعابد أو القصور والتماثيل وغير ذلك، وفقدان المواد الأولية كالحجارة والمعادن يستدعي البحث عن الفنيين المختصين في نفس مواقع تلك المواد، فكان الاتجاه نحو عيلام وشمال العراق والهند (ملوخا ومكان)، إذن الحضارة ليست هي البناء وإنما البناء هو أحد مظاهر الحضارة وأحد ملازمات الحضارة، فما هي الحضارة إذن؟، الحضارة هي الأنظمة والقوانين التي تنظم حياة الإنسان، وهو ما يخالف الفوضى، لذلك يقال إن الإنسان انتقل من عصر الفوضى الى عصر الحضارة عندما عرف الزراعة، لأن الزراعة تتطلب الاستقرار بينما في العصر السابق على عصر الزراعة عندما كان الانسان يعتاش على الصيد والالتقاط فإنه كان ينتقل من الموضع الذي تفنى فيه الثمار والحيوانات التي كان يقتات منها، ولكنه عندما عرف الزراعة فإنه قد استقر، ونتج عن ذلك اختراعه للكتابة التي استفاد منها أول الأمر لتنظيم تجارته البدائية الخاصة بالمحاصيل الزراعية، ولا ننسى أن رجل الدين هو الذي اخترع الكتابة في معابد جنوب العراق في وقت متزامن أو مقارب مع وادي النيل، بالتالي فإن الكتابة هي من أوضح مصاديق الحضارة، وكان السومريون يعتقدون أن من لا يقرأ و لا يكتب فهو حيوان يمشي على أربع كما يذكر ول ديورانت في (قصة الحضارة ج 1)، ومن النصوص التي تركت في العراق ووادي النيل عرف تاريخ البشرية القديم وكيف تقدمت الانسانية حتى وصلت الى عصرنا الحالي، والوجه الثاني للحضارة هو الدين، ومما لا شك فيه فإن الدين والإله والظواهر الكونية لم يكن الانسان قادراً على تصورها بالشكل المجرد الذي يعرفه الآن، ونظراً لبدلئية الانسان وسيره من عصر الطفولة الضرورية فلا نتوقع أن يكون الدين والعبادة في تلك الازمان متطابقة مع تصوراتنا الحالية، لذلك احتاج الانسان الى أن يجسد الدين بأشكال مادية تعبر عن المجرد لقصور فهمه عن ادراك المجرد البسيط، فصنع المذابح التي كان يقدم عليها القرابين والمعابد التي اتحذت أشكال هرمية تتشابه مع الجبال باعتبار أن الجبال كانت بعيدة عن مراكز الحضارة في وادي النيل وفي السهل الرسوبي (جنوب العراق وإيران)، والجبل لقربه من السماء وعلوه واعتقاد الانسان أن الآلهة ومركز التحكم في الكون موجودة في السماء، لذلك قام بصنع المعابد المرتفعة والأبراج، وفي فترات متلاحقة قام بصنع التماثيل بعضها كان يمثل الآلهة وبعضها كان يمثل الملوك وبعضها كان يمثل أشكال حيوانات طبيعيةوخرافية لأغراض التزيين أو لأغراض دينية سواء كانت خرافية أو أسطورية أو تمثل تميمة لدفع شر ما أو جلب منفعة ما.

ويحدثنا القرآن أن الحرفيين الذين دعاهم القرآن بـ(الجان) كانوا يعملون تماثيل ومعابد لسليمان النبي والملك، وهي حقيقة تاريخية ليس محل التفصيل بشأنها الآن.

وهكذا من خلال هذين النموذجين الحضاريين عرفنا ما كان عليه الإنسان، أو لنقل عرفنا بعض ما كان عليه الإنسان لأن الواقع يؤكد أن الرموز القديمة سواء للغات السومرية والأكدية والهيرغلوفية المصرية لم تحل كاملة، وأن التوارتيين تلاعبوا بالمقاطع في هذه اللغات بما يتناسب مع فهمهم التوارتي لإثبات الصحة المطلقة للنص التوارتي.

ولكن الزمن كفيل بكشف ما خفي أو ما كان غامضاً في نواحي الحضارتين العظيمتين. والآن نشهد حملة يقودها مدعوا الدين وهدفهم كما يقولون هو (تنقية المجتمع من رواسب الوثنية أو الانحراف في العقائد الاسلامية). وفي الحقيقة هذا لا يختص يالاسلاميين المتطرفين بل نجد تاريخاً مأساوياً في المسيحية قامت خلاله السلطات الدنيوية والكنسية بمذابح للبشر والمصادر التي تخالف العقيدة الرسمية ونحن نعرف أن ما يقارب من 200 إنجيل تم تدميرها من قبل بيزنطة بدعم من الكنيسة لاعتبارها هرطقة، وللا أن بعض المهمتمين قاموا بدفن العديد من النصوص لما عرفنا وجودها تحقيقاً ومن أوضح أمثلتها أناجيل نجع حمادي في مصر ومخطوطات قمران في البحر الميت، وسيجود الدهر علينا بالمزيد من النصوص المخفية عندما يحين الوقت.

وهكذا شهدنا جرائم خطيرة بحق الحضارة الانسانية وتراثها ومن أوضح أمثلة الجريمة التي ارتكبها صلاح الدين الأيوبي بإحراقه لعشرات الآلاف من كتب دار الحكمة التي أسسها الفاطميون في القاهرة، فهذا الرجل (الأرمني الكردي الطائفي) ارتكب هذه المجزرة تنكيلاً بالفاطميين وانتصاراً للسنة كما إدعى، وعلى خطاه الأثيمة يسير المتأسلمون اليوم إذ نسمع عن حرق مكتبات أو منع مصادر لطائفة معينة، مثلاً في مصر أو الحجاز نجد أن الكتب الشيعية ممنوعة أو متواجدة بشكل خفي ونادر، وهؤلاء يقدمون على هذه الخطوات لأمرين : جهلهم وحقدهم، ناهيك عن الاحساس بالنقص والتخوف من الكلمة.

أما حكاية الآثار والمتطرفين فهي قصة أخرى أيضاً، فدعواهم أن علينا أن ندمر التماثيل والنصب في وادي النيل انتصاراً لدين الله، فهذه النصب والتماثيل التي كانت تعبد من دون الله تمثل شركاً يخشون على المجتمع من العودة إليه، أو أنهم يجب أن يدمروها للقضاء على أي ذكرى أو ذكر للوثنية. وهنا لا بد أن نلتفت إلى أمور:

- أن الوثنية لم تكن تتجسد بتمثال فقط، فكانت تتمثل بصخرة مرة كما في اللات وهي عبارة عن صخرة مربعة في الطائف، ولم تكن تمثالاً، مع ذلك ذكرها القرآن، كونها كانت تعبد. ونجد هناك أيضاً شجرة تعبد وهناك الكواكب كما في القمر الذي كان اسمه المقدس عند العرب (ود)، ونجد عدة أمثلة، بالتالي فإن الوثنية لا تتمثل بصنم وإنما لها عدة وجوه، بالتالي فهل علينا أن ندمر كل شجرة أو صخرة أو بيت؟.

-إن هذا الفهم السطحي الساذج للتوحيد أو الشرك هو الذي أنتج هذا الكم المخيف من المتطرفين والإرهابيين في العالم اليوم، وإذا كان مستوى المسلمين بهذا الشكل المتدني بحيث صرنا نخشى عليه من تمثال مضى عليه 5000 عام فهذا يدل على ضحالة المؤسسات الدينية وعدم قدرتها على مواكبة العصر.

-إن الغرب يهدف الى طمس هويتنا وتاريخنا إذ نشهد اليوم في العراق أكبر مجزرة للآثار، ويمكنك أن تلاحظ ذلك من خلال السرقات الممنهجة للآثار العراقية وآخرها سرقة غزال أور الذي أشرف على تهريبه الى قطر عبر الحدود الايرانية أحد نواب البرلمان العراقي الحالي، فضلاً عن الرؤية السطحية الجاهلة لمعظم الأحزاب والتيارات الإسلاموية في العراق التي ترى في الآثار بقايا وثنية، وفي زيارة قمت بها العام الفائت الى مدينة أور شاهدت آثار قذائف الهاون في جدران الزقورة التي شيدها الملك أورنمو مؤسس سلالة أور الثالثة نهاية الألف الثالث، كما شاهدت في قصر شولكي الملك بقايا فضلات الكلاب وسط القصر، وللقارئ أن يعلم أن هذين الملكين حكما الشرق الأدنى في وقتهما باستثناء وادي النيل كما عرفت في عصر أورنمو أقدم تشريع عرفته البشرية، ناهيك عن الآثار الكتابية التي تركتها لنا هذه السلالة والتي لا زالت عشرات الآف الرقم لم تحل ألغازها.

وهنا لا أريد أن أفوت مناسبة كتابة هذه الكلمات إذ يعتصرني الألم وأنا أسمع بإحراق آخر الوثائقيين العرب الأستاذ محمد حسنين هيكل الذي نكب مؤخراً بأن قام بعض المتخلفين من أنصار جماعة الأخوان بإحراق مكتبته والتي تضمنت وثائق عكف كاتبنا الكبير على جمعها خلال العقود الثمانية من حياته، وهكذا ينطلق صلاح الدين الأيوبي مرة أخرى لتدمير التاريخ والعلم والحضارة باسم الدين والدفاع عن السنة مرة أخرى، ولا حول ولا قوة إلا بالله.