من "التأديب" بالحرب إلى "تأبيد" للحرب

 

 

ما بين ضربة تأديبية للنظام السوري قد تنقلب إلى تأبيد لحرب على الإقليم، وضربة "صورية" يراد لها حفظ ماء الوجه غير مؤمنة من التدحرج السريع إلى حرب إقليمية قد تشكل الصاعق المرتقب لحرب كونية ثالثة، يتكشف الوجه البهيمي للنخبة الغربية التي قد تدخل آخر حروبها على الجنس البشري.

العدوان "الغربي - العبري - العربي" على سورية لم يبدأ يوم الخميس كما سرب له في الإعلام الأمريكي والغربي، ولن يبدأ الليلة كما هو مرجح بعد عودة أعضاء لجنة تقصي الحقائق الأممية، لأنه كان قد بدأ منذ أكثر من عامين ونصف العام، حين خرج الرباعي الصليبي، أوباما وأتباعه، ليقولوا للرئيس السوري: ارحل، كما قيل لنظرائه في دول الربيع العربي، ليبدأ مسلسل الترحيل بالوكالة عبر المجاميع المسلحة الممولة بالمال العربي الخليجي.

.

"الرايات الكاذبة" لعدوانية الصليبية

كما أن الخرق الأمريكي الغربي للقانون الدولي، لم يبدأ مع إصرار العصابة الإجرامية في حلف النيتو على التدخل العسكري المباشر خارج أي غطاء من مجلس الأمن، لأن العصابة ذاتها سبق لها أن ضربت عرض الحائط بالشرعة الدولية، وهي تجند وتسلح مجاميع إرهابية من أكثر من أربعين دولة لتقتيل الشعب السوري، ومن قبل بتنفيذ تسع حالات عدوان وغزو على الشعوب العربية والإسلامية في بحر خمس عشرة سنة، كان آخرها عدوان النيتو على الشعب الليبي.

ولمن خرج يحتج على قرار الجامعة العربية ألمخز، الداعي والمحرض مجددا على الحرب الصليبية على سورية، وتحرش نفس الطغمة من حكام الخليج بشعب شقيق، عليه أن يتذكر سابقة هذا المسخ الذي يسمى بالجامعة العربية حيال العدوان الصليبي على ليبيا، وشراكة الثلة من الأعراب في ترتيب العدوان مرتين على الشعب العراقي.

ولمن استكثر على رئيس العصابة الإجرامية المقيم بالبيت الأبيض أن يلجأ، بلا خجل أو حياء، إلى فبركة أدلة الكيميائي لتبرير العدوان على سورية، عليه أن يتذكر كيف أن الإدارة الأمريكية المجرمة، في عهد بوش، لم تتردد في قتل أكثر من ثلاثة آلاف مواطن أمريكي، وفبركة عدوان افتراضي على الأراضي الأمريكية ألبس مسوح الإرهاب، ونسب كذبا إلى القاعدة، ولهم في هذا الإجرام سوابق كثيرة، نظموا فيها اعتداءات تحت "رايات كاذبة" لتبرير حروب امبريالية صرفة.

"إن كان أوباما قد لجأ إلى فبركة أدلة الكيميائي لتبرير الحرب "التأديبة" على سورية، فقد استباح سلفه قتل 3000 أمريكي، وفبركة "راية كاذبة" لعدوان افتراضي على أمريكا ألبس مسوح الإرهاب" لتبرير الحرب الإمبراطورية".

نخبة مجرمة بغريزة الكواسر

لأجل ذلك لا أرى طائلا من الاسترسال في الشجب والاستنكار، واستحضار القيم الأخلاقية، وواجب الانصياع للشرعة الدولية التي لا تطبق سوى في حق الضعفاء من الدول، كما لا يطبق القانون في جميع الدول سوى على المستضعفين من المواطنين، أفضل التفكير والبحث مع القارئ في مسار العدوان المبرمج على سورية، واستشراف مآلاته على عموم الإقليم العربي المستباح، بل وتهديداته المضمرة للسلم والأمن في العالم.

ليس لدي شك من أن الجزء الأول من العدوان على سورية، قد فشل أو كان سيعلن عن فشله نهاية هذه السنة، مع قبول الأطراف الأصيلة والوكيلة بالذهاب بجدية إلى مؤتمر جينيف اثنين، وأنه ما كان للدولة السورية ولحليفها الروسي أن ينخدعا بما ظهر من وهن في صفوف وقوى الحلف الغربي، لأن تاريخ الغرب المسيحي اليهودي الحديث، يشير إلى أن "النخبة الغربية المجرمة" قد عودتنا على أنها تتصرف بسلوك الجوارح والكواسر، التي لا ولن تتخلى عن الفريسة تحت إي ظرف، والفريسة السورية كانت منذ البداية صيدا استراتجيا ثمينا، لا يمكن للغرب - المتراجع نفوذه في أكثر من ساحة - أن يغامر بسقوطه الكامل والنهائي بأيدي القوتين الصاعدتين: الروسية والصينية دون قتال.

مكره أخاك "حسين" لا بطل

وحتى مع التسليم بما كان يروج له من بداية قبول الطرف الأمريكي بتسوية سياسية مع الروس، فإن مستجدات كثيرة ظهرت في الأشهر القليلة الماضية، كانت ستدفع حتما الطرف الأمريكي وحلفاءه نحو العودة الاضطرارية إلى الخيار العسكري بهذه الصيغة الفجة أو بأخرى.

فقد خسر أوباما الصارية التي كان يعول عليها لرفع "خيمة" الشرق الأوسط الجديد، المولد بفعاليات الربيع العربي، حين فشلت أجهزته الاستخباراتية والدبلوماسية في رصد فعاليات تحضير انقلاب الجيش المصري على حلفائه من الإخوان، وما يترتب عنه من إضعاف مبكر لبنيان الشرق الأوسط الجديد، وقد جاء بعد انسداد أفق تفعيل "ربيع الشعوب" في ما بقي من العالم العربي، وانطلاق ما يشبه المحاسبة لأباما داخل الكونغرس، تريد جرد حساب ما أنفقته الإدارة وما تحقق من عوائد تبقى غير مرئية لخصومه.

مصائب باراك عند "قومه" فوائد

ولأن المصائب تأتي تباعا، فقد جاءت فضائح أمنية متتالية لتنغص على أوباما أيامه، كان آخرها تفجير فضيحة تنصت أكبر جهاز استخباراتي أمريكي على المواطنين الأمريكيين، وعلى قادة ومواطني الدول الغربية الحليفة، ختمت بإهانة الروس للإدارة الأمريكية في قضية العميل "سنودن" بمنحه حق اللجوء السياسي.

وقد تكون هذه أحداث ثانوية غير حاسمة، قياسا مع المأزق الخطير الذي دخل فيه البيت الأبيض مجددا، مع تراكم غيوم إعصار جارف قد يرتد بالاقتصاد الأمريكي والعالمي إلى ما هو ألعن من أزمة 2008، ما لم ينجح أوباما في إقناع الكونغرس بضرورة رفع سقف المديونية من 16400 مليار دولار إلى 17000 ألف مليار، أو تكون الولايات المتحدة قد دخلت منتصف أكتوبر القادم في حالة عجز عن الوفاء بالتزاماتها أمام الدائنين، في ما هو أقرب إلى إفلاس الدولة اليونانية.

ومع هذا الإفلاس المعلن في إدارة الخروج من الأزمة الاقتصادية، وتراكم مؤشرات كثيرة بقرب انفجار أزم مالية نقدية، يتم التكتم عليها بشأن قرب انهيار مفجع للدولار نهاية السنة الجارية أو أواسط السنة القادمة، فإن الرئيس الأمريكي خضع لضغوط ملحة من "الحليف" الصهيوني المتخوف من التراجع الأمريكي في الشرق الأوسط، وما يسوق له الإعلام الأمريكي والغربي المتصهين حول ضعف الرئيس الأمريكي وافتقاره للقيادة، كما خضع لضغوط من حلفائه الأوروبيين والخليجيين، كانوا يدفعون به دفعا نحو استعادة المبادرة أمام الروس والصينيين، وكل واحد منهم مصاب برعاش خبيث، محاصر بأزمات لا حل لها.

الأيادي الخفية لـ"العقب الحديدي"

جميع هؤلاء الحلفاء (أوروبا والأتراك والخليجيون) وقد استثمروا الكثير في تغذية الربيع العربي، وفي الإنفاق المالي والسياسي عليه ومن رصيد قوتهم الصلبة والناعمة ، رؤوا في الانكفاء الأمريكي المعلن، وذهابه المنفرد إلى تسوية مع الروس، رأوا فيه ضياعا لعوائدهم المؤملة من الاستثمار، وهم أعجز ما يكونون عن إدارة منفردة للحرب على سورية، تختلف حتما عن مغامرتهم الآمنة في ليبيا.

في مثل هذه الظروف لم يكن بوسع الرئيس الأمريكي أن يقاوم هذا الحجم من الضغوط، بدءا بضغوط الصقور في إدارته وحزبه، وفي الحزب الجمهوري، وانتهاء بضغوط خفية - هي الأهم عندي - يمارسها أرباب "العقب الحديدي" من الصيارفة المرابين، الحكام الفعليين في الغرب وفي العالم، والذين باتوا يراهنون على حرب كونية أوسع من الحرب الدائرة في سورية: مواجهة مفتوحة بين القوى العظمى، تسمح لهم بإعادة توزيع الأوراق الرابحة، وغسل ثرواتهم، وتجديد منابعها، كما فعلوا في أعقاب الحربين الكونيتين، وهم بلا ريب يحضرون منذ عقود مسرح العمليات لحرب كونية ثالثة، لا يعنيهم البتة لأي من الفريقين تعود فيها الغلبة، وقد وزعوا بيضهم بين السلة الغربية وسلة الشرق الأسيوي، إن لم يكونوا قد نقلوا "البيضة الأم" من الرحم الغربية المصابة بأعراض "سن اليأس" إلى الرحم الأسيوية الواعدة.

من "التأديب" بالعدوان إلى تأبيد الحرب

بودي أن أجاري جدلا من يعتقد أن التهديد الأمريكي الغربي بشن "ضربة تأديبية" للنظام السوري ليس لها غد، يقولون أنها لا تزيد عن قصف ذكي لبنك محدود من الأهداف، وقد أجاري من اطمأن أو من انزعج على السواء من تصريح لفروف بشأن امتناع روسيا عن الدخول في الحرب، لكن الحقائق على الأرض تدفع إلى تدبر غير هذا السيناريو الأقل تشاؤما.

فليس من المنطقي أن تجازف الولايات المتحدة بقيادة عدوان يضعها في مصاف الدول المارقة عن الشرعية الدولية، لتتوقف عند حدود "تأديب" النظام السوري ببضعة صواريخ "كروز" ليومين أو ثلاثة أيام، كما لا يصدق عاقل أن الروس - وقد استثمروا في الحرب الدائرة في سورية الكثير - أن يقف الروس يتفرجون على البوارج الأمريكية وهي تدك حليفهم لتقلب موازين القوة، وتنتزع من الحكومة السورية وحليفها الروسي ثمار سنتين من القتال المدمر على الأرض، ومواجهة غير مسبوقة مع الغرب داخل مجلس الأمن.

 وما لم يكن قد حصل توافق روسي - أمريكي - سوري على تمرير "ضربة صورية" تمثيلية، غايتها حفظ ماء الوجه، فإنه يتعين على كل عاقل أن يبدأ في العد التنازلي لبداية حرب إقليمية، قد تتوسع لما هو أخطر من الحرب الإقليمية المنضبطة، مع انطلاق أول صاروخ أمريكي، وأن المواجهة سوف تتدحرج بلا ريب، من رد محدود لسورية، يستهدف الخاصرة الرخوة للمنظومة الغربية في الكيان الصهيوني، إما مباشرة أو عبر حزب الله، إلى دخول إسرائيل الحرب عبر الساحة اللبنانية، مع احتمال حركات تصعيدية قد تأتي بدخول الأتراك على الخط، يعقبها بلا شك دخول الإيرانيين، وقد يستغل توريط تركيا في النزاع مباشرة كذريعة لتفعيل تدخل بري مباشر لقوات حلف النيتو.

اختبار اختياري قبل الحسم الإجباري

التحذير الروسي الفاتر من تداعيات العدوان الخفية، مع غياب أي إجراء روسي لأجل ترحيل قرابة 20000 مواطن روسي ما بين مدني وعسكري، يضمر أحد الأمرين: إما أن الروس قد حصلوا على ضمانات بشأن محدودية الضربة التي لا تستهدف قلب موازين القوة، أو أنهم قد أعدوا العدة لمواجهة مفتوحة، يقاتلون فيها كما كان يقاتل الصينيون في حرب فيتنام، خاصة وأن تقارير كثيرة تحدثت في الشهور الأخيرة عن تزويد الروس لسورية بأسلحة دفاعية وهجومية يسمح لها لأول مرة بالخروج من روسيا.

فقد نقل موقع استخباراتي بريطاني، أن الروس قد زودوا حليفهم السوري بمنظومات دفاعية وهجومية جد حديثة، مثل منظومة إيس 300 وربما إيس 400، وحوالي 400 قاعدة رامية لصواريخ " 24 باريل" التي تعتبر من أحدث الراجمات المدفعية في العالم بمدى يزيد عن 60 كلم، إضافة إلى صواريخ أرض بحر من طراز "سكين 5 " القادرة على إصابة وتدمير أي هدف بحري على بعد 250 كلم، هذا على الأقل ما نقله الموقع البريطاني عن التهديدات التي صرح بها الرئيس الروسي بوتن في لقائه الأخير مع رئيس الوزراء البريطاني، والذي أضاف حسب الموقع: أن روسيا سوف تجهز سورية بأسلحة سوف تفاجئ الغرب، بما يعني أن من يكون خلف مقود قيادة هذه الأسلحة هم الخبراء الروس وليس المقاتل السوري.

 وما لم نفاجأ في الأيام القليلة القادمة بقرار روسي، يأمر بترحيل الرعايا الروس، فإننا مقبلون على مواجهة مفتوحة، يريد كل طرف من القوتين العظميين أن يختبر فيها الخصم، إلى أن يضطر أقلهم صبر وتحملا إلى البحث عن مخرج، أو عن تأجيل للمواجهة المبرمجة بين القطبين، إما الآن على خلفية النزاع  في سورية، أو في الغد القريب في إيران إذا ما سقطت سورية.