يَدٌ تَشُجُّ وَأُخْرَى مِنْـكَ تَأْسُونِي

 

 

فوضى عارمة اجتاحت مكاتب كثيرة في دوائر عديدة من دوائر الدولة وترك كثير من الموظفين أشغالهم وأهملوا معاملات المواطنين التي تكدست فجأة على غير العادة، المراجعون الذين كانوا ينهون معاملاتهم بأقصى سرعة دون أن يسمعوا العبارات البيروقراطية المعتادة (تعال باجر) او (المراجعة من الشباك)، صاروا اليوم طوابير مكتظة، ولولا الخشية من خرق القوانين والتعرض للمحاسبة والعقوبات لأوصد بعض الموظفين ابواب دوائرهم وتفرغ في جو من الهدوء والسكينة ليراجع بأيدٍ أمينة تفاصيل وحيثيات، حذافير وفقرات، دقائق وموجبات (تعديل سلم رواتب موظفي الدولة في العراق) الذي طال انتظاره وترقبته جماهير الموظفين العريضة مدة ليست بالقصيرة و ههو قد ولد أخيرا بعد مخاض عسير، دون أن ينطبق عليه المثل القائل: (تمخض الجبل فولد فأرا).

الدولة تعشّم الموظفين منذ أكثر من عام بالزيادة فمنذ العام الماضي أشار (مصدر مطلع) إلى قرب منح مخصصات (غلاء المعيشة) والبالغة (200) ألف دينارعراقي لمنتسبي دوائر الدولة فضلا عن اعتماد سلم رواتب جديد، لأن "السلم القديم لم يطرأ عليه تغيير في العام الماضي (2011)، لكن بالتأكيد سيتم تغييره في العام القادم (2013)، وذلك لرفع مستويات الرواتب، لان هناك فارقا كبيرا بين الدرجات العليا والدنيا وهذا الفارق" -كما أكدت نجيبة نجيب عضو اللجنة المالية بمجلس النواب العراقي- في تصريح لها يعود الى 9/10/2012 وأكدت « أنه فارق غير عادل ويجب ألا يستمر».

ولأن (العدل أساس الملك) تسعى الحكومة لإحقاق الحق وإرساء مداميك العدل بين المواطنين سواء أكانوا من الدرجات العليا أم الدنيا فوجهت أنظارها نحو شريحة الموظفين الذين يفنون زهرة شبابهم في خدمة الدولة ودوائرها واستقر رأيها أخيرا أن الرواتب التي يتقاضاها هؤلاء غير عادلة من ناحية قلتها بل وشحتها بالنسبة للدرجات التاسعة والعاشرة، وعدم تماشيها مع الدرجات التي بلغها التضخم وغلاء الأسعار في البلاد بالنسبة للدرجات المتوسطة، فضلا عن الفجوة بل والهوة السحيقة التي تفصل رواتب هؤلاء وأولئك عن رواتب الدرجات العليا والخاصة وأعضاء مجلسي النواب والوزراء ناهيك عن الرئاسات الثلاث.

التعديل الذي سيطبق مطلع الشهر المقبل، حسب مصادر، أو مطلع العام المقبل حسب أخرى، لا يحتاج، حسب بيان أمانة مجلس رئاسة الوزراء الموقر، إلى تشريع أو مصادقة مجلس النواب لأن «قانون 22 لسنة 2008 خوَّل مجلس الوزراء صلاحية إجراء التعديلات على الرواتب وفق تكاليف المعيشة والتضخم» وقد جاءت الموافقة عليه «ضمن خطة إصلاح لنظام الرواتب والمخصصات من أجل تحقيق العدالة والمساواة والتوازن بين موظفي الدولة» وفقا لذات البيان. هنا يطرح سؤال ملّح نفسه: (لماذا انتظر مجلس الوزراء عاما ويزيد ليقر الزيادات التي كان يبحثها منذ العام الماضي رغم أن إقرارها وكما جاء في بيان الأمانة العامة لا يحتاج إلى كثير من الأمور الروتينية بل هو أسهل من (عضة كوسايي) كما يقول المثل السوري، فلماذا جاء في هذا التوقيت؟).

التوقيت قد لا يكون مهما لدى كثير من الموظفين ذوي الرواتب الشحيحة وشعارهم المثل القائل (أن تأتي متأخرا خير من ألا تأتي أبدا)، وإن كان آخرون ما زالوا متشبثين بمثل من نوع آخر يقول (لا تكول سمسم إذا ما تلهم) فقبل أن تصل مبالغ الزيادة الى الجيب كل القرارات سواء. ولا أحد من المذكورين يشكك في أن إقرار التعديل في هذا التوقيت له علاقة باقتراب الاستحقاق الانتخابي، وهم على يقين من استحالة أن يعمل حزب أو جهة أو ائتلاف على استغلال المال العام بهذه الصورة لأغراض الدعاية الانتخابية وبدل توزيع السكر والزيت والبطانيات، يوزعون زيادات، وغدا يرددون قول عبد الله بن الزبير، الذي ذهب مثلا: (أكلتم تمري وعصيتم أمري).

في العهد البائد كان المواطن في دوامة من الحروب المتواصلة والحصار وضيق الحال و وفقدان السكر تارة والمعجون تارة أخرى ما كان يفسر على أنه أسهل الطرق لتدويخ الشعب وشغل تفكيره بتوفير لقمة العيش لئلا يتفرغ للبحث عن الحرية والمطالبة بالديمقراطية والعدالة، ذات العدالة التي ينشدها المواطن اليوم رغم انه مازال (دائخا) وهو يدور في حلقة العنف والإرهاب المفرغة باحثا عن الأمان، وينشدها أيضا سلم الرواتب الجديد الذي ولد مشوها، فعضو لجنة الاقتصاد والاستثمار في مجلس النواب أقر بأن (موظفي الدرجة الخامسة هم فقط المتضررون من هذا التعديل وسيتم إنصافهم في تعديل آخر). وأضاف: (أن الخطوة اللاحقة هي العمل على دراسة موضوع التباين في المخصصات الممنوحة لموظفي الدولة للشهادات نفسها والاختصاص والعنوان الوظيفي نفسه) كما أشار إلى أن العمل (يجري للضغط من الأعلى لتخفيض نفقات الدرجات والمناصب العليا سواء اثناء الخدمة أم في حالة التقاعد). فلماذا لم يراع التعديل كل هذه النقاط ويعالج تلك الثغرات مع طول فترة مكوثه في أروقة الإعداد؟ فولد التعديل خديجا مشوها، رغم طول الانتظار ورغم الاطلاع على نماذج من الدول الاخرى (كما أشار أحد المسؤولين سابقا) ومازال يحتاج الى ملاحق.

الإصلاح، تحقيق العدالة والمساواة وتقليص الفوارق والفجوات كلها أهداف سامية لا يختلف عليها اثنان جعلها التعديل هدفه وبغيته، لكن اسئلة كثيرة مازالت تطرح نفسها:

-كم يشكل موظفو الدولة كنسبة مئوية من الشعب العراقي، هل كل الشعب موظفون؟ بالطبع لا، بعض الدول المتقدمة تصرف رواتب مجزية لمواطنيها من العجزة و كبار السن والعاطلين عن العمل فضلا عن ذوي الاحتياجات الخاصة، فما أحوجنا إلى سلم خاص لرواتب هؤلاء يراعي كرامتهم الإنسانية ويعدو بهم بعيدا عن خط الفقر الذي بات ملاصقا لكثيرين وربما تجاوزهم.

-الموظف هو في أغلب الأحيان رب عائلة، ولديه التزامات تجاه زوجته وأطفاله تفوق التزامات العزاب، أما كان حريا أن تتم مراجعة مخصصات الزوجية التي لا تتجاوز الـ (50) الف دينار عراقي والقاء نظرة على مخصصات الاطفال البالغة (10) آلاف دينار شهريا للطفل الواحد بمعدل (333) دينار لليوم الواحد في زمن يصل فيه سعر كيس الحفاضات الواحد بالمتوسط الى (7) آلاف دينار، وسعر الحلوى (المصاصة) من النوع غير الفاخر الى (250) دينار. وماذا عن الأولاد الأكبر سنا؟

-اين ستصل مستويات التضخم يوم يقبض الموظفون هذه الزيادة، وهل ستبقى لها قيمة مع اندلاع حرائق الأسعار سواء في السلع الغذائية الاساسية أم الايجارات أم وسائط النقل وحتى الدفاتر والقرطاسية  سيما والمدارس على الابواب؟

الحكومة ستراعي كل ذلك بالتأكيد ولن تترك الموظف يدفع بالشمال أضعاف ما قبض باليمين، و لن نسمح أن ينطبق عليه المثل المصري القائل: ( يافرحة ما تمت خذها الغراب وطار).