وعكسه الانتقام، والتسامح دليل حاكمية العقل والعقلانية في المجتمع، اي مجتمع، اما حب الانتقام وروح التشفي والتربص فدليل على غلبة الجهل واللاعقلانية، وهذا ما نلاحظه اليوم في بلداننا، ومنها العراق، وليس المقصود بغياب التسامح، على الصعيد السياسي فحسب، ابدا، وانما على مختلف الاصعدة، فالتسامح غائب عن المجتمع بشكل عام، ولهذا السبب نرى النفوس تغلي لانتهاز الفرصة من اجل الانتقام.
وكثيرا ما يتساءل الناس عن أسس التسامح؟ وكيف يمكن لمجتمع من المجتمعات تحكيم التسامح في حياته؟ كونه القيمة التي يجب ان تحكم المجتمع قبل ان نتوقع انجاز اي شيء ايجابي وعلى اي صعيد من الاصعدة، فالمجتمع الذي تحكمه روح الانتقام لا يمكن ان ينعم بالامن وتاليا لا يمكن ان يلحظ اية تنمية، لان من شروط التنمية ايجاد الاستقرار في المجتمع، وهل يمكن تحقيق الاستقرار مع حاكمية روح الانتقام؟.
قبل كل شيء لا بد من الايمان المطلق بان التسامح هو حجر الزاوية في بناء المجتمع والنهوض به، ليترسخ في عقولنا ومشاعرنا واحاسيسنا انه الاصل في التعامل مع الذات ومع الاخر، اقول مع الذات لان الانتقام من الاخر يسبقه الانتقام من الذات، فالانسان المشبع بمثل هذه الثقافة ضد الذات، كيف يمكنه ان يمارس التسامح مع الاخر؟ يقول امير المؤمنين عليه السلام في عهده الى مالك الاشتر لما ولاه مصر {يَفْرُطُ مِنْهُمُ الزَّلَلُ، وَتَعْرِضُ لَهُمُ الْعِلَلُ، ويُؤْتَى عَلَى أَيْدِيهِمْ فِي الَعَمْدِ وَالْخَطَاَ، فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَصَفْحِكَ مِثْلَ الَّذِي تُحِبُّ أَنْ يُعْطِيَكَ اللهُ مِنْ عَفْوِهِ وَصَفْحِهِ}.
ان التسامح يستصلح من المشاكل والازمات ما لا يستصلحه اي شيء آخر، ولذلك اشاع رسول الله (ص) ثقافة التسامح بين الناس ليبني به مجتمعا متسامحا ومتماسكا، خاصة بعد ان تمكن من اعدائه عندما فتح مكة وعاد اليها ظافرا منتصرا.
نعود الى السؤال: كيف نحقق التسامح اذن؟.
اولا: تقاسم الحقيقة فيما بيننا، وعدم احتكار اي احد للحقيقة المطلقة، فان احتكار الحقيقة وتصور هذا الطرف او ذاك بانه يمتلك ناصية الحقيقة بالكامل دون سواه، يدفعه الى تكفير الاخرين وقتالهم وقتلهم لالغائهم من الوجود، وهذا ما نلاحظه اليوم في النهج التكفيري المتطرف الذي تتبناه مجموعات العنف والارهاب التي تقاتل كل الناس بحجة انهم على باطل وانهم في ظلال وان تكليفهم الشرعي يحتم عليهم قتالهم حتى يفيئوا الى امر الله تعالى، وان امر الله تعالى عندهم فقط دون غيرهم، فاما ان ينصاعوا لما يرونه من دين وتفسير وموقف وايمان وعبادات، او ان يقتلوا وينفوا من الارض.
ان احتكار الحقيقة يخلق اجواء الانتقام في النفوس، لانه يشيع ظاهرة السعي لالغاء الاخر، والتربص به والتشفي منه حتى في الموت، تصور، وهو الحال الذي يحكم علاقاتنا اليوم، فقد شاعت ثقافة التكفير واللعن والاتهام بالانحراف والخروج عن الجادة بين كل اثنين اختلفا في فكرة او تفسير او رأي.
ثانيا: اذا قررنا ان لا نحتكر الحقيقة فسنؤمن بالاخر، واذا آمنا بالاخر فسيسامح بعضنا البعض الاخر.
يلزمنا ان نؤمن بالاخر كحقيقة وكأمر واقع وكمسلمة من المسلمات الايجابية، فالتنوع سنة الله تعالى في خلقه، ليس على صعيد اللغة واللون والجنس فقط، وانما على صعيد الدين والمذهب والفكر والثقافة كذلك، وان التسليم بالتنوع والتعددية والاخر يشيع ثقافة التعايش في المجتمع ويلغي ثقافة الالغاء التي تحرض على الانتقام والتشفي والتربص.
ان الايمان بالتنوع في المجتمع لا يعني احترام الاخر فحسب، وانما يعني العمل من اجل حماية هذا التنوع، والحيلولة دون القضاء عليه، فلقد اثبتت كل تجارب البشرية، قديمها وحديثها، ان كل محاولات القضاء على التنوع تبوء بالفشل مهما استخدم فيها الانسان من سلاح فتاك، لان التنوع، كما اسلفت، سنة الله في خلقه، وهل يمكن القضاء على سنن الله تعالى؟ ابدا؟.
ثالثا: القانون، فاذا حكم المجتمع القانون العادل او على الاقل ما يتصالح عليه الناس، فان ذلك يساهم في اشاعة روح التسامح والعفو ويقلل من روح الانتقام، شريطة ان يكون القانون فوق الجميع، ليحقق العدالة والمساواة والانصاف، اما اذا تم التعامل مع القانون بانتقائية فان ذلك يشيع روح الانتقام.
ان الانسان الذي يطمئن الى القانون، فيتيقن من قدرته على حمايته من اي اعتداء على حقوقه، وانه سياخذ بحقه ممن يظلمه، فانه بكل تاكيد سيسعى الى التسامح والعفو بعد ان يتمكن من ظالمه بالقانون، اما اذا شكك الانسان بقدرة القانون على فعل شيء اذا ما تعرض للعدوان او حقوقه للتعدي والسحق، فانه سيبادر الى ان ياخذ حقه بيديه بدلا عن القانون، الامر الذي يشيع روح الانتقام ويحسر ثقافة التسامح.
ولعل هذه النقطة تحديدا هي التي تسببت في اشاعة روح الانتقام وانحسار روح التسامح في المجتمع العراقي، لان المواطن لم يشعر لحد الان بان القانون قادر على ان ياخذ حقه، سواء ممن ظلمه ويظلمه، او حقوقه الدستورية التي نص عليها الدستور والتي يجب على الدولة ان توفرها له ليتمتع بها فيشعر بمواطنيته وبانتمائه لهذا الوطن الذي ضحى من اجله بالغالي والنفيس.
ان القانون الذي يسمح لمجموعة ما بالاستئثار بكل شيء على حساب حقوق المواطنين، ولا يحاسب اللصوص والفاشلين، يزرع في المجتمع روح الانتقام بالتاكيد، لان الموطن يشعر في هذه الحالة ان القانون يحمي المستاثرين المتجاوزين على حقوقه بدلا من ان يحميه فينتزع حقوقه انتزاعا من الدولة.
ان للقانون دور عظيم جدا في اشاعة روح التسامح، لانه يحقق المساواة والعدالة والانصاف في المجتمع، وهي الاسس التي تنبني عليها روح التسامح في اي مجتمع، وهذه مسؤولية الدولة التي يجب ان لا تصغ الى المفسدين الذين يتصيدون بالماء العكر على حساب الثقة المجتمعية، يقول الامام علي (ع) في عهده الانف الذكر {وَلْيَكُنْ أَبْعَدَ رَعِيَّتِكَ مِنْكَ، وَأشْنَأَهُمْ عِنْدَكَ، أَطْلَبُهُمْ لِمَعَائِبِ النَّاسِ، فإنَّ في النَّاسِ عُيُوباً، الْوَالِي أَحَقُّ مَنْ سَتَرَهَا، فَلاَ تَكْشِفَنَّ عَمَّا غَابَ عَنْكَ مِنْهَا، فَإنَّمَا عَلَيْكَ تَطْهِيرُ مَا ظَهَرَ لَكَ، وَاللهُ يَحْكُمُ عَلَى مَا غَابَ عَنْكَ، فَاسْتُرِ الْعَوْرَةَ مَا اسْتَطَعْتَ يَسْتُرِ اللهُ مِنْكَ ما تُحِبُّ سَتْرَهُ مِنْ رَعِيَّتِكَ، أَطْلِقْ عَنِ النَّاسِ عُقْدَةَ كُلِّ حِقْد، وَاقْطَعْ عَنْكَ سَبَبَ كُلِّ وِتْر، وَتَغَابَ عَنْ كلِّ مَا لاَ يَضِحُ لَكَ، وَلاَ تَعْجَلَنَّ إِلَى تَصْدِيقِ سَاع، فَإِنَّ السَّاعِيَ غَاشٌ، وَإِنْ تَشَبَّهَ بِالنَّاصِحِينَ} اما الحاكم الذي يتسقط عيوب الاخرين فيحتفظ لهم بملفات يبتزهم ويهددهم بها كلما اقتضت الحاجة، فان مثل هذا الحاكم يزرع في المجتمع روح الانتقام بدل التسامح.
كما ان تهريب المجرمين من السجون وعدم تنفيذ الاحكام الصادرة بحق القتلة والتعامل مع ملفات الارهابيين سياسيا، ان كل ذلك يزرع روح الانتقام في المجتمع ولا يساهم في اشاعة التسامح ابدا.
رابعا: الوسطية، فالتطرف احد اخطر الاسس التي تبنى عليها روح الانتقام، فالتطرف في قبول او رفض الفكرة، اية فكرة، او الزعيم، وكذلك التطرف في الحوار والنقاش، والتزمت في فرض الراي او رفض الراي الاخر، ان كل ذلك يساهم في الغاء ثقافة التسامح في المجتمع، ولذلك فان علينا جميعا ان نعمل من اجل اشاعة الوسطية في المجتمع، وهي الميزة التي تميزت بها امتنا عندما تحدث عنها القران الكريم بقوله {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ} فالشهادة والتطرف على طرفي نقيض لا يجمع.
ان العقل والمنطق يهديان الى الوسطية، والتي تبنى فكرتها على اساس عدم احتكار الحقيقة وكذلك عدم التطرف، ولذلك، فاينما حل العقل وسلاحه المنطق، حلت معه الوسطية، والعكس هو الصحيح، فاذا غاب العقل والمنطق وسيطرت العواطف والاهواء على المشهد، غابت الوسطية وحل محلها التطرف.
خامسا: واخيرا، الاعتراف بالخطا، في مقابل العفو.
ان كثيرين يستشهدون بتجربة جنوب افريقيا وزعيمها نيلسون مانديلا عند الحديث عن ضرورة اشاعة روح التسامح في العراق الجديد، او في اي مجتمع آخر يشهد تغييرا سياسيا.
لا يختلف اثنان على عظمة تلك التجربة الانسانية، التي علمت البشرية معنى التسامح ودوره في اعادة بناء المجتمع من جديد، الا ان هؤلاء ينسون او يتناسون احد اهم الاسباب التي ساهمت في انجاح تجربة مانديلا مع التسامح والعفو ، الا وهي اعتراف الظالم (الابيض) بجرائمه ضد الضحية (الاسود) ثم الاعتذار منها بشجاعة امام الملأ، وتاليا تعهده بان لا يكرر جرائمه مرة اخرى، من خلال اعترافه واستسلامه بالامر الواقع الجديد الذي خلقه التغيير.
اما في العراق مثلا، فلا الظالم (ايتام الطاغية الذليل صدام حسين) اعترف لحد الان بجرائمه ضد ضحاياه (الشعب العراقي) كما اننا لم نسمع منه لحد الان كلمة اعتذار ابدا، بالاضافة الى انه للان لم يعترف بالحقائق الجديدة التي ولدها التغيير الذي اعقب سقوط الصنم في التاسع من نيسان عام 2003.
انهم للان يمجدون بالعهد البائد ويتغنون باسم الطاغية الذليل ويسعون للعودة بعقارب الساعة الى الوراء، بالاضافة الى انهم اظهروا قدرة فائقة على التحالف حتى مع الشيطان، كتنظيم القاعدة الارهابي ومن يسمون انفسهم بالسلفيين الجهاديين(التكفيريين) للعودة الى السلطة على حساب دماء العراقيين والبلاد التي دمروها وتنازلوا عن سيادتها وهم في السلطة وها هم اليوم يدمرونها ويعرضون سيادتها للخطر وهم خارجها.
فكيف يمكن ان ندعو ضحايا النظام البائد للتحلي بروح التسامح والعفو في ظل هذا النوع من الظالمين؟.
حتى الذين التحقوا منهم بالعملية السياسية الجديدة، تبين انهم لم يعترفوا بها مقدار انملة، وان الايمان بها كحقيقة جديدة اعقبت التغيير لم يدخل قلوبهم لحظة واحدة، وانما تسللوا لها لتدميرها وتخريبها من الداخل.
والادهى من كل ذلك، ان بعض ضحايا الطاغية الذليل لا زالوا يتشبثون بما يصفونه بالمصالحة الوطنية لتبرير علاقاتهم مع مخلفات النظام البائد، فكيف يتصور امثالهم بان العراق سيستقر وان العملية السياسية ستستقر وهي تاتي اليوم على حساب دماء العراقيين واشلاءهم المتناثرة في الشوارع والطرقات؟.
ان التشبث بقوله تعالى {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف} للسكوت على ما يحصل في العراق، دليل الجهل المركب:
الف: ان هذه الاية تخص الجانب الفردي للمذنب وليس الجانب المجتمعي، اي انها تتعلق بما يخص ممارساته كفرد وليس كمجتمع، يقول تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف} فليس في الاية حديث عن الحق العام ابدا.
ثانيا: ان الاية تتحدث عن مرحلتين، هما مرحلة الكفر ومرحلة الايمان، فهي تطمئن (الكفار) الذين آمنوا بان ما ارتكبوه من خطا سيعفو عنه الله تعالى بعد اسلامهم، اما اذا لم يسلموا فان الامر تنطبق عليه القاعدة المنطقية التي تقول (سالبة بانتفاء الموضوع).
ثالثا: ان للاية تتمة مهمة واستراتيجية جدا لم يات على ذكرها امثال هؤلاء الانتقائيين، انها تقول {وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} وهو بيت القصيد الذي يتحدث بدقة متناهية عن الواقع في العراق.
علينا جميعا ان نخلق أسس التسامح في المجتمع لنساعد في اعادة بنائه، ولكن بالطريقة الصحيحة التي لا تاتي على حساب الحقوق، خاصة وان المجرم لم يعترف بذنبه بعد، ولم يعتذر، وهو اول حق للضحية.
|