يميل اغلب الكتاب والمثقفين العرب عامة والعراقيين (موضوع بحثنا) خاصة الى التعميم في اطلاق الاحكام والنعوت على مجتمعاتهم او مجتمعات الغير حين يبحثون مساويء ومحاسن هذه المجتمعات ولا يخفى ان لكل قاعدة شواذ وان الظاهرة الواحدة في علم الاجتماع قد يسببها اكثر من سبب واحد وان تشخيص الظاهرة يحتاج الى تحليل اسبابها المختلفة ومعالجة كل منها على حدة، ولما كان العالم حولنا يسير وفق ما تنتجه شفرة الجراح ومجهر المختبري وابداع المبرمج والمهندس وابتكار المخترعين او بتعبير اخر يسير العالم حولنا خلف ما ينتجه البحث العلمي كالأعمى بلا اعتراض على اي منتج مادي ينتجه بحث هنا واختراع هناك وفكرة تطبق هنالك، كان لزاماً علينا ان ندرس المجتمع كجسم حي نطبق عليه النظريات العلمية وننتظر النتائج لدراستها واقتراح الحلول الاصلاحية والنهضوية وتطبيقها وهكذا.
ان اسوأ ما تعانيه الدراسات الاجتماعية والنفسية لدينا هو افتقارها الى الوضوح في تشخيص المشكلات وطرح الحلول الواضحة الصريحة لكل حالة على حدة فتجد الكتاب والمؤلفين والباحثين الاجتماعيين يكتفون بالعموميات في الطرح والتشخيص ونحن نعرف ان الحكم العام على مجتمع كامل بشكل مباشر وقاطع وعلى الجميع بلا استثناء شيء خاطئ فلكل قاعدة شواذ بل ان معطيات التطور والحضارة جعلت الشواذ في كل مجتمع اكثر من القاعدة بغض النظر عن القاعدة وهل هي ارث حضاري او تراث ديني او تقليدي او علمي. فحين يشخص عالم مرموق ان المجتمع يعاني من الازدواجية مثلاً فهو بذلك يعمم على الجميع صفة قد لا توجد عند البعض بل وان وجودها عند الكثيرين ليس سببه واحداً فقط بل تتعدد الاسباب ووجوه هذه الظاهرة لدى هؤلاء الكثيرين وحين يقترح حلاً لها فقطعاً ان الحل الواحد لا يكفي لمعالجة مشكلة الملايين المختلفين من حيث اعراض المرض الاجتماعي ومسبباته ودرجة استفحاله فيهم ومن هنا وجب التبعيض والتشخيص والدراسة لكل حالة على حدة وهو ما يسمى في البحث العلمي (Case Study) اي دراسة حالة تطبيقية لمعرفة النتائج ثم تعميمها قدر الامكان.
في البحث العلمي:
ينتهج الباحثون في اي تخصص علمي منهجاً شبه عام وهو دراسة موضوع عام بداية ثم التدرج بالتخصيص والحصر كالبادئ من قاعدة الهرم والمتجه نحو قمته وتنتهي بحوثهم بالاستقرار على شريحة صغيرة من العينات للموضوع العام يأخذونها وتتسم بصفات معينة ويطبقون عليها نظرياتهم المبتكرة والمحدثة عن نظريات الاخرين ويقارنون النتائج والتي يفترض ان تكون افضل من نتائج الاخرين ممن سبقوهم في هذا المضمار، اما في علم الاجتماع فمعرفة ان للكلمات جغرافيا وتاريخ وحياة تنبض وروح تختلف من مكان لأخر ومن وقت لأخر يوجب على الباحث ان يأخذ هذه المتغيرات بعين الاعتبار حين يدرس مجتمعاً من المجتمعات ويقارنه بغيره فلا يجوز تطبيق حلول جاهزة من المجتمع (س) على المجتمع (ص) حتى لو كان المجتمعان يعانيان نفس المشكلة فالدعوى القومية في بلاد العرب عام 1916 سببت ثورة كبرى حررت العرب من سيطرة الاتراك ولكن نفس هذه الدعوى الان سببت انفصال جنوب السودان عن شماله وتفتيت الكثير من الدول الى دويلات قومية متصارعة.
تقريب الفكرة:
لتقريب الفكرة اكثر اطرح مثالاً غير بعيد كنت قد قرأته قبل مدة لأحد الاخوة وهو يقول ان مناهج البحث والطرح الديني يجب ان تتجدد وتكون اكثر مرونة في التطبيق لتواكب الحياة وتصبح الرقم واحد في الحياة الخاصة والعامة بدل ان تكون في مجاهل التاريخ والنسيان وهنا يبرز سؤال مهم جداً وهو: اي مناهج منها تقصد؟ فنحن لدينا الالف المتحدثين بأسم الاسلام والمليارات من المطبقين له فهل كل هؤلاء بحاجة الى ما ذكرت؟ قطعاً لا وهنا تبرز اهمية التبعيض ودراسة حالة معينة وعدم التعميم الذي لا ينفع (برأيي) في القضايا الاجتماعية لعدة اسباب:
1- ان التعميم يلغي دور الوعظ والنصح فكل من يقرأ العموميات يستثني نفسه منها مبدئياً فالعقل الباطن لدينا يصور لنا انفسنا بأنها كاملة فحين الحديث عن الغيبة نقول (لعن الله المغتابين ما اقبحهم!) ونحن قد نكون منهم ولكن لا نشعر بذلك وهكذا.
2- ان التعميم في القضايا الاجتماعية كما ذكرنا سابقاً يهمل تعدد الاسباب واختلاف النتائج للظاهرة الواحدة الامر الذي ينتج نتائج عكسية في الكثير من الاحيان فحين يقول كاتب وباحث ان المجتمع بحاجة الى الزهد في الحياة اكثر ويقرأ ذلك الزاهدون فعلاً يزيدون في زهدهم الى درجة مفرطة وتقع الكارثة وهكذا.
3- ان جغرافيا الكلمات وتاريخها يجعل التعميم الذي يقصد منه الكاتب المجتمع (س) يفهم بشكل معاكس لمجتمع اخر على الضفة الاخرى من الكوكب يتميز بصفات معاكسة للمجتمع الاول ويزيد الطين بلة كلمات الكاتب هنا بما لا يؤدي الى المطلوب بل عكسه في اغلب الاحيان كأن يأتي كاتب ويقول ان الشعوب المستضعفة يجب ان تثور على الظالمين وهو يقصد الدولة الفلانية (س) ويقرأ المقال اناس في الدولة (ص) وهم يعيشون الرفاهية الترف بل لا مقارنة بينهم وبين (س) من اي ناحية وتهب في نفوسهم المترفة نشوة الثورة والمغامرة فيخربون بيوتهم بأيديهم بلا قصد ولا شعور والامثلة على ذلك كثيرة من الواقع المعاش اليوم.
مثال حي يوضح الفكرة: اين المشكلة؟
يدعي الاسلاميون ان المشكلة او المشاكل التي تحيط بنا سببها بعد الناس عن منهج السماء والتمسك بما قال فلان وما فعل علان من غير المعصومين بل من البشر الخطائين وان كل ما يقولونه بما يخالف شرع الله باطل اعتناقه والعمل به
ومن جانب اخر يدعي العلمانيون والمتأثرون بعالم الماديات ان السبب في كل بلائنا هو تقليدية الاسلاميين وآرائهم التي لم تعد قابلة للتطبيق في دنيا اليوم او الادعاء بمبادئ واخلاق عظيمة ولكنهم حين يصلون الى التطبيق فأنهم يفشلون في ذلك
وهكذا تستمر الجدلية الازلية
هنا يبرز دور التبعيض في معالجة مشاكل المجتمع في تقسيمه عموماً الى اسلاميين (او دينيين بشكل اعم) وغير دينيين وطبعاً لا نقصد بهؤلاء الملحدين والزنادقة الغير مؤمنين بدين بل الذين يفضلون مناهج بشرية لقيادة الحياة بديلاً عن منهج السماء:
برأيي كلاهما محق وكلاهما مخطئ معاً!!؟؟كيف ذلك؟
بالنسبة للإسلاميين فأن جزءاً كبيراً من قولهم صحيح وهو ان سبب الكوارث الطبيعية والتقلبات الارضية والطوارئ السماوية قد يكون سببه البعد عن منهج السماء وهذا شيء اكيد فقد وعد ربنا عباده الصالحين بالنعيم في الدنيا والاخرة ووعد تعالى المذنبين والعاصين بالذل والهوان وتقلب احوال الدنيا في هذه الحياة والعقوبات اشد بعد الموت ولكن من باب اخر فهل التزم الاسلاميون تطبيقياً بما يدعون نظرياً؟ لكم الجواب احبتي...
اما بالنسبة للعلمانيين فهم محقون حين يرون ان بعض مفاهيم الدين (والتي هي مفاهيم تفسير الدين وليس الدين نفسه وهي في اغلب الاحيان ان لم يكن كلها تعبر عن اراء واجتهادات تصيب وتخطيء) بعيدة عن روح العصر والتطور الطبيعي للحياة في الارض وان كانوا يغفلون دور المجددين والمعاصرين من علماء الاسلام وتقديمهم لطروحات فائقة الجودة من حيث الكم والنوع والتوافق مع دنيا اليوم وكذلك لا ننسى ان الكثير من بحوث العلوم المختلفة تثبت لنا يوماً بعد يوم الجوانب الخفية لأحكام السماء وافادتها جميعاً لكل جوانب الحياة المادية والمعنوية وعلى مر العصورولكن العلمانيون من باب اخر مذنبون ومدانون بأنهم تمادوا في غيهم وتضادهم مع كل مقدس وسماوي بل عمدوا الى مخالفة حتى مبادئهم التي يعتقدون بها من عدالة اجتماعية واصالة انسانية وحرية شخصية وتعددية فكرية واحترام الرأي والرأي الاخر وتداول السلطة وغيرها من المثل النظرية لديهم والتي لا يطبقون منها الا ما يوافق مصالحهم فهم في هذا ليسوا افضل من الطرف الاخر والشواهد على ذلك كثيرة للمتتبع. فهم للأسف ركزوا على اظهار مساؤي الطرف الاخر بدل اظهار محاسنهم وترك الخيار للناس في ذلك
اذا الحل ليس في الادعاء للمثل والقيم بلا تطبيق وليس بشهر العداء للأخر وتغييب العقل في سبيل ال(خالف تعرف) ولا الحل في تحشيد الناس ضد الاخر بل في كلمات متواضعة توجه للطرفين على حد سواء:
1- تثقيف الناس للدين الصحيح والعلم الحديث
2- اعمل ودع عملك يتكلم
3- اترك للناس حرية معرفة الصالح من الطالح بعد ان تثقفهم وتريهم عملك.
4- لا للتسقيط والتحشيد ضد الاخر بل ادع الى ما تعتقد بالحكمة والموعظة الحسنة ولا ننسى ان (ما كان لله ينمو) وان صاحب النية الصادقة فائز ناجح لا محالة.