الهروب الذي لم يكتمل |
... وعندما ضاقت بالفتى الحيل في هولير ومن ثم زاخو ، اتفق مع من زعم انه عارف بممرات الحدود ليوصله مجانا الى داخل الاراضي السورية عبر نهر صغير بامان . كان ذلك مطلع سبتمبر من العام 96 حيث حوصر مع مئات العراقيين في اربيل على اثر اتفاق بطل التحرير الكردي مسعود مع بطل التحرير العربي صدام لاجتياح اربيل . منذ الصباح الباكر جلس الفتى الذي لم يكن يملك الا الاسمال التي تغطيه ، على قارعة الطريق منتظرا خبير ممرات الحدود ليغادر معه الى سورية سباحة رفقة صديقين احدهما طبيب تقطعت به السبل هو الاخر . وطال الانتظار وطال حتى انتصف النهار وبدأ اليأس يدب في اوصال الفتى المشرد وسط متاهات الشمال المفروض ان يكون حبيبا . لكنه يخشى ان ترك هو المكان فان الخبير ياتي في ذلك الحين فسيكون سببا في فساد الخطة ويُحرم من نعمة الهروب من جحيم كردستان الى النعيم السوري المزعوم . وبينا هو كذلك اطل شبح صاحبنا الخبير من بعيد فاستبشر الفتى خيرا وحسب ان ساعة الفرج تدق الابواب وان القامشلي اصبحت قاب قوسين او ادنى . استقبله بلهفة سائلا عن سبب تاخره عن موعد الصباح الباكر . لم يجب صاحبنا الخبير بمسالك الشمال حيث تبدى الارهاق جليا على ملامحه وربما على ملابسه ايضا . اعاد الفتى عليه السؤال ثانية عله يحصل منه على تبرير وجيه للتاخير . لكن دون رد . حسنا ، هل نتوجه الان الى حيث نطبق خطة الهروب الكبير؟ سال الفتى الخبير العليم ... لم يرد ايضا ، لكنه رفع بنطاله كاشفا عن ساقين داميتين بجروح غائرة بلغت في اكثر من مرة حدود العظم . ذهل الفتى من المنظر المريع الذي ذكره بـ " صور من المعركة" ايام الحرب الطاحنة مع ايران . هل يسرك انك كنت معنا في تنفيذ الخطة وانه اصابك ما اصابنا ؟ سال الخبير بالمسالك الفتى المذهول . بحق السماء اخبرني بما حدث لكن قبل ذلك انت بحاجة الى اسعاف مستعجل تجنبا لاي مضاعفات فجروحك لا يمكن الاستهانة بها . قال : نعم سافعل ذلك بعد ان اشرح لك باختصار ما جرى لنا نحن الثلاثة الهاربين من دوريات الانضباط العسكري في الشمال ... عندما اخبرتُ زملاء الرحلة الشاقة بانني عاهدتك بمرافقتنا استنكروا عليّ ذلك بشدة وحذروني من ان مرافقة شخص مجهول قد تنتهي بنا الى الهلكة لان هذا الفتى المجهول قد يشي بنا عند السلطات فتفسد الخطة ويضيع العمر وراء قضبان السجون في احسن الاحوال . استطرد : توجهنا من الصباح الباكر نحو النهر الذي يفضي عبوره الى الاراضي السورية واخترنا اضيق ممراته لتسهل علينا سباحته ، وكان الطقس يشجع على السباحة فايلول في بدايته والمهمة تبدو سهلة ميسرة باذن الله . قفز الثلاثة الى داخل النهر ومع هذه القفزة بدأت حلقات المأساة المكتملة . الطبيب ، بدلا من ان يستقبله ماء النهر ، كانت بانتظار راسه الملىء باسماء العقاقير والامراض ، صخرة جعلته يترنح امامنا قبل ان يختفي عن الانظار والى الابد . الرفيق الاخر شاهدته وهو يعبر نصف النهر ثم اخذ التيار القوي يتقاذفه ذات اليمين وذات الشمال ثم اختفى هو الاخر والى الابد ملتحقا بالطبيب . اما انا وكنت آخر القافزين الى الجحيم السائل ، فقد اوشكت ان القى نفس المصير لولا ان حجرة كبيرة عصمتني من الانجراف بعد ان تلقيت حزمة من "الجلاليق" القاسية من حجر النهر . ولما كنت قريبا من الشاطىء وشاهدت ماساة رفيقَي رحلة الموت عدت بشق الانفس ادراجي متحملا كل هذه الاصابات التي تشاهدها الان . كنت اصغي اليه مرعوبا وهو يتلمس ملامح هذا الرعب في عيني . قال : حياتك الان حافظ عليها من توفاهما الموت ... اليست هذه مفارقة ؟ قرات الفاتحة وتلمست جسدي ورضيت بما انا فيه من مأساة وتيقنت انني لست اشقى الاشقياء في ذلك اليوم الايلولي المحمل بالبشاعات . كان ذلك قبل 17 عاما بالتمام والكمال . وفتى الامس هو المدعو حميد آل جويبر اليوم .
|