ان ألتزام الخليفة المآمون بالفكر المعتزلي لم يأتِ من فراغ ،وأنما جاء من واقع عملي عمل له الخليفة العباسي طويلا حتى ادركه.فالصراع بينه وبين الفقهاء لم يكن صراعاً عاديا،بل كان صراعا فكرياً سياسياَ دينيا . فالمآمون يريد به انتصار العباسيين على الفقهاء لأبقاء الدولة له ولأبنائه من بعده، وهم يريدون انتصار الدين التقليدي على العباسيين لأبقاء الدولة تحت سيطرة أفكارهم كما كانت في عهد الخليفة المهدي .فكان المآمون في الجانب الايمن، والفقهاء في الجانب الاخر.
وحتى يجد الخليفة المآمون المبرر من اجل تصفيتهم ،لابد من آثارة مشكلة دينية كبيرة يثير منها عاصفة الحوار الهادىء ،ثم يحوله الى حوار ساخن، تمهيدا للانفراد بالسلطة السياسية والدينية معا.من هنا اثيرت مسألة خلق القرآن واجبار الفقهاء على القبول برأيه والاذعان له، والا بينه وبينهم السيف الذي لا يرحم.. وحين وصل الامر الى مايشبه الأصرار على رأي الخليفة ،اصر الفقهاء على الرفض بأن القرآن غير مخلوق وأنما هو كلام الله المنزل على عبده دون الافصاح عن التفاصيل.وكان الامام احمد بن حنبل هو الذي رفع الراية بوجه المآمون معارضا ما اراد الاقرار به ،بينما وقف القاضي الفقيه أسحاق بن ابراهيم بجانب المآمون .
واستمرالسجال بين الطرفين،بين قوة تَحكم وبين قوة تُحكم ،والنتيجة ان في دولة اللاقانون يكون الانتصار دوماً للقوة الغاشمة على الاخرى بغض النظر عن الحق والعدل الذي في حسابها لا يساوي شيئاً لكنه الى أجل،وهذا هو الذي أوقع دولنا ومجتمعاتنا في محنة الزمن القاسية منذ بداية الانحراف السياسي على عهد الامويين والى اليوم لا زلنا نعاني الامرين. وحين أدرك بعض الفقهاء ما يريده الخليفة المآمون وما يقصد،وهو تشكيك الناس في أيمان الفقهاءلاسقاط هيبتهم ونفوذهم في المجتمع، لأنه كان مدفوعاً بدافع العاطفة السياسية والدينية التي لا تعرف حقائق الامور سوى ما يهيأ لها من أفكار خاطئة من قبل فقهائه المنتفعين من أغراءات السلطة .لذا أصر الجانب الاخر ان يخوض المعركة ضدالمامون الى آخر الشوط لقناعتهم بصدق ما يعتقدون.
لقد هدف الخليفة المآمون من مشروعه الديني الى كسب الشرعية الدينية لدولة بني العباس ،تلك الدولة التي عاشت أكثر من خمسمائة عام بلا شرعية دينية ،لانها مغتصبة للحق الديني والاجتماعي لعامة الناس ،فالدولة عند التغيير من الامويين الى العباسيين قامت على شعار مرن هو (الدعوة للرضا من آل محمد) ،فلا هي عباسية ولا هي علوية 2 بل نصت على المشاركة السياسة في الحكم والادارة،لكن العباسيين قلبوا ظهر المجن للعلويين لينفردوا بالسلطة،محاولين أنجاح ما فشل فيه سلفهم الخليفة المهدي بأضفاء الشرعية الدينية على دولتهم فلم يفلحوا،فما بني على باطل فهو باطل. وستبقى كل الدول التي تقوم على الفوضى والاغتصاب لحقوق الاخرين فاقدة للشرعية الدينية والسياسية والى زوال مهما ملكت من قوةالمؤيدين ،كما اخبرنا القرآن الكريم، يقول الحق:(لكلٍ جعلنا منكم شرعةً ومنهاجا ًالمائدة 48).
وفي الحوار الذي دار بين فقيه المآمون اسحاق بن ابراهيم واحمد بن حنبل في مسألة خلق القرآن من عدمة ،تلمس الاصرار على العقيدة عند الامام ابن حنبل وبعض الفقهاء الاخرين امثال علي بن أبي مقاتل وأبي حسان الزيادي حين يصرون على ان القرآن غير مخلوق، رغم معاناة السجن والتعذيب والترهيب الذي واجهه الفقهاء من سلطة الدولة. وبقوا على أصرارهم لادراكهم ان المآمون يريد ان ينتصر عليهم ،ليبقي دولة الاسلام تحت السيادة العباسية. بينما هم كانوا يرون ان الدولة ورياسة أمة الاسلام للفقهاء اي للعدل والدين،وهنا يدخل الصراع مرحلة التحدي والسيف. وكانت الحجة عند فقهاء المآمون بمخلوقية القرآن هي الاية الكريمة( ما يأتيهم من ذكر من ربهم مُحدث الا أستمعوه وهم يلعبون،الانبياء 2). وهنا لابد لنا من ان ندخل في شيء ليعرفه الناس عن مسألة خلق القرآن وما هو المقصود منه؟ القضية لها جذور منذ عصر الرشيد والخلاف بين العباسيين والعلويين على السلطة ومركز القرار. وحين قرر الرشيد الفتك بالبرامكة كان بداية النهاية لتفكك الدولة ،لان البرامكة هم الذين أصلوا الدولة ونظموها ادارياً ومالياً.ومن جاء من بعدهم من أمثال الفضل بن سهل وطاهر بن الحسين،لم يرقوا الى مستواهم علماً وتنظيماً واخلاصاً وأمانة، وهم اٍسوأ قادة شهدتهم الدولة العباسية بعد الرشيد والبرامكة، فهم الذين دبروا الفتنة القاتلة بين الامين والمأمون لينفرد الفرس بولاية الدولة فحققوا ما ارادوا بقتل الامين والانفراد بالمآمون.لكن الامر أنقلب عليهم بعد ان ادرك المأمون نواياهم الخبيئة ضد الدولة والخلافة ،و بعد ان وصلت الدولة الى مرحلة الافساد.
لم يجد المأمون من وسيلة لضرب المعارضين الا وسيلة مبتكرة من الفقيه أسحاق بن ابراهيم ليمتحن فيها الفقهاء ويقضي عليهم الا وهي وسيلة (هل القرآن محدث ام قديم ،مخلوق ام غير مخلوق).وسواءً كان القرآن قديم ام محدث فهو سيان ،لانه مخلوق وخالقه هو الله فأين هو الخلاف؟
الخلاف ان المأمون اراد ان ينتزع الشرعية الدينية من الفقهاء ليحولها للعباسيين في حكم الناس ،فأذا ارتضت به العامة رئيساً دنيويا عليهم ان يقروا بولايته الدينية الشرعية 3 ايضاً ،وهذا كل ما في الامرليجعل من مناهضة الفقهاء وسيلة لتشكيك الناس بهم والانفراد بالامر دون الاخرين. لكن جهوده خابت بالفشل لانه كان ضعيف الحجة مما قصد ويريد.،ولانه لم يجد الحجة القائلة بمخلوقية القرآن ولم يجد فيه آية قرآنية واحدة تقول أنا خلقنا القرأن ،بل وجد( انا جعلناه قرآناً عربياً،الزخرف 3).
وفي الخطاب الموجه من المآمون للفقهاء ما هو الا حملة سياسية قوية يرافقها التهديد بوصفهم بمتصنعة أهل القبلة وملتمسي الرئاسة وهم ليسوا من أهل الملة من القول بالقرآن،ومن يتابع خطاب المآمون الى الفقهاء في الطبري ج8ص631-633 لا يجد فيه شيئا يقوله مدعوما بالحجة والبرهان سوى سرد تاريخي لا معنى له،وحين خاب في خطابه اراد ان يمتحنهم بما يعتقد، ففشل مرة اخرى،وهكذا يفشل الاصرار الباطل امام الحجة والمنطق على دوام التاريخ...انه خطاب يقصد منه الاعتراف بقوة السيف لا بقناعة المنطق ،أنها لم تكن حديثا في دين او مناقشة في عقيدة،أنما هو أرهاب للناس،من استجاب نجى،ومن لم يستجب قتل. وهذه هي ديدنة دكتاتورية التسلط والرأي الواحد في حكم الدولة.
يبدو ان السيف أخاف الكثيرين الا الذين ثبتوا على العقيدة والمبدأ ويقف أحمد بن حنبل في مقدمتهم،لكن السجال ظل مستمراًولم ينتهِ الا بالمنية التي عاجلت المأمون فمات بالرقة سنة 198 للهجرة وعمره 48 سنة هجرية دون ان يحقق ما يريد من مشروعه المبهم. وبوصيته التي تركها لاخيه المعتصم اصر بها على تحقيق ما كان يهدف اليه والوصية موجودة في الطبري ايضاً. لكن المعتصم لم يتمكن من ان يصل الى مايريد فمات هو الاخر بعد ان حل بالدولة الخراب والتفكك وذهبت عاصمة الخلافة بغداد لتنزوي في زوايا التاريخ لتخلفها سامراء بعيدا عن المشاكل والقلاقل بين الترك والفرس والعرب . ليخلفة المتوكل الذي امات الفكرة وصانعيها من الفقهاء معا ،وقاد انقلابا سياسياً ودينياً على الفكر والمفكرين حتى انتهى بنقل الدولة من حالة الانفتاح العلمي الى حالة الجمود الفكري.
وهنا لا يمكن فهم أساس الاسس في العقيدة الا في حرية الرأي والمعتقد،فأذا حكم الناس أنسان ظالم علينا مناهضته دون ان نترك ذلك لمقولات القضاء والقدر ،لان العقيدة والمجتمع تقوم على قوانين موضوعية لا يجوز التنصل منها او اهمالها، وبالتالي فأن نظرية الحق والعدل هي التي تسود في نهاية الامر.مع الاسف ان مجتمعاتنا العربية والاسلامية تخلت في مواقف كثيرة عن هذا الامر الرباني مما جعلنا نخوض في متاهات الفوضى والتخلف سنين عديدة، ولا زلنا.لذا يجب علينا ان نفهم معنى قضاء الله وقدره
4 في اعمال الناس وحقوقهم الاساسية حتى لا يتسلط ظالم بقوة السيف عليها مهما تجبر وطغى.
فهل كانت الدولة الاسلامية ملكاً عضوضاً للامويين او العباسيين ؟ لا ،وبنظري لا أحد يستحقها منهم ،لانها ملك الامة وهي التي تختار الخليفة وهي التي تعزله اذا لم يحسن القيادة بالحق والعدل،وهذا هو الذي ينبغي ان نقرره دائماً لان زعامة أمة الاسلام للحق لا للقوة والعصبية. وهذا ما فقدناه منذ بداية التأسيس حين تركت سلطة الدولة بيد الخليفة دون تحديد مدة او مدى سلطان ،والسياسة تعمي البصر،وتضلل الذهن وتملأ القلب قسوة ،وتجعل الانسان يرتكب جرائم لا توصف من اجل ان يبقى السلطان في يده ودولتنا الحالية اليوم مثالا في عراق المنكوبين. ولا تقل هذا منزه وذاك غير منزه ،فالكل ان لم يضبطهم القانون وتراقبهم مؤسسات الشعب فهم في غيهم يعمهون وخاصة في دولة الذهب الاصفر،لان المال السائب يفسد أخلاق الرجال. لذا فالدستور يجب ان يكون واضحاً لا لبس مكتوبا من المتخصصين فيه والقانون مطبقاًعلى الجميع دون تفريق، ساعتها تسود الدولة العدالة والاستقرار ودولة القانون. فلا دولة بلا دستور كامل وقانون واضح مطبق ليحدد سلطة الدولة عن حقوق الناس وبه يحفظ الامن والمال والنفس.
والقرآن والحديث النبوي الشريف واقوال أهل البيت والصحابة المؤمنين كلها تصب في هذا الاتجاه السليم،فهل يدرك الخلف ما أودعه السلف ،ام يبقى على رأيهم من المخالفين؟ واخيرا نقول فليسقط الحاكم الظالم ليأتي من بعده البديل ؟
jabbarmansi@yahoo.co m
|