مسألة تعليق الصور في الشوارع

 

لقد تم تعليق صور السيدين خميني وخامنئي في شوارع بغداد ومدن عراقية اخرى . من غير المعتاد قيام الدول بتعليق صور زعماء وقادة دول اجنبية اخرى في شوارعها , ومن غير المعتاد ايضاً تولي شخص واحد اعلى سلطتين سياسية و دينية في آن واحد ببلد ما في العصر الحديث الا ايران والفاتيكان , ولم يسبق في تاريخ العراق الحديث أن قامت الحكومة او فئة سياسية أو دينية بتعليق رسوم تمثل شخصيات سياسية او دينية غير عراقية في شوارعها . ان هذه حقائق ينبغي الاشارة اليها قبل مطالعة مسألة تعليق صور قادة أجانب في شوارع العاصمة بغداد من دون تحيز او ميل .                                                                              
لوعدنا قليلاً الى العهد الملكي في العراق لرأينا ان شوارع بغداد كانت خالية من اي صورة او جدارية , وعندما تم تتويج فيصل الثاني ملكاً على العراق في يوم السبت الثاني من مايس 1953 لم ترفع صورة واحدة له في اي مكان في بغداد او اي مدينة عراقية بل اكتفي برفع الاعلام العراقية وتزيين الشوارع والمحلات , وظلت الاعلام العراقية ووسائل الزينة في اماكنها لعدة ايام , وانا شاهد على ذلك . وقبل تتويج الملك فيصل الثاني اي عندما كان خاله الامير عبد الآله بن علي وصياً على العرش لم يحدث ان رفعت صورة له في اية مناسبة , علماً ان مدة وصايته دامت من يوم 4 نيسان 1939 لغاية 2 مايس 1953 .
وفي عهد الزعيم عبد الكريم قاسم رفعت صوره وظهرت جداريات عليها رسومه , وكان ذلك رداً على خلافه على الزعامة مع شريكه في 14 تموز العقيد الركن عبد السلام عارف , ومن هذا المنطلق ايضاً ظهر لقب ( الزعيم الاوحد عبد الكريم قاسم ) وشعار ( ماكو زعيم الا كريم ) .لقد انتشرت صور الزعيم عبد الكريم قاسم في مداخل المعسكرات وبعض المؤسسات والدوائر الحكومية وحتى الشوارع  , ومن المؤكد انه لم يكن يمانع في ذلك , لقد كانت المرحلة السياسية في عهده تتسم بشدة الخلافات بين الفئات السياسية وخصوصاً بين الشيوعيين والقوميين مما تتطلب الى وجود زعيم قوي , لذلك كانت كل صوره بالزي العسكري , ولم يظهر عبد الكريم قاسم مطلقاً ولم يشاهده احد طيلة مدة حكمه بغير هذا الزي , وهذا ما دفع ابني الصغير لأن يسألني في حينه ( بابا ... سيادة الزعيم ما عنده قاط ؟ )
بعد سقوط الزعيم عبد الكريم قاسم اختفت صوره ولم تعلق مكانها صور المشير الركن عبد السلام عارف الذي صار رئيساً للجمهورية , وذلك لان الجو السياسي الذي ساد العراق منذ يوم 8 شباط 1963 لم يكن يسمح لأحد ان يرى صورته معلقة في الشارع , رئيس الجمهورية لم يكن يمثل الرقم واحد في النظام السياسي كونه لعب دوراً هامشياً في حركة اسقاط عبد الكريم قاسم بالمقارنة مع حزب البعث الذي لم يكن عبد السلام منتمياً فيه , اما مجلس قيادة الثورة فقد كان يضم حزبيين غير منسجمين رغم كونهم اعضاء في القيادة القطرية لحزب البعث . لقد استمرت هذه الحالة الى شهر تشرين الثاني 1963 . في هذه المرحلة قام عدد من القوميين بوضع صورة الرئيس المصري جمال عبد الناصر على الزجاج الامامي لسياراتهم مما دفع مجلس قيادة الثورة الى اصدار قرار يمنع تعليق صور السياسيين من اي نوع او جنس او هوية , وقد تشدد المجلس في متابعة تطبيق القرار ونجح في ذلك .
لما اشتدت الخلافات بين اعضاء مجلس قيادة الثورة الحزبيين  ووصلت الى حد التسقيط , رأى المشير عارف ان الفرصة سانحة للانقضاض عليهم اجمعين , فانقض عليهم بمساعدة الجيش وذلك يوم 18 تشرين الثاني 1963وابعدهم كلهم عن مناصبهم وعن العراق .لقد استمر المشير عبد السلام عارف على رأس السلطة السياسية الى يوم مصرعه في حادث طيارة يوم 12 نيسان 1966 . لم يعرف عن عبد السلام عارف ولعه في تعليق صوره ولم تقام جداريات عليها رسومه وخلت الشوارع من صوره رغم قيام بعض الانتهازيين بتعليق بعضها . أما خلفه اللواء عبد الرحمن عارف فلم تعلق صوره هو الآخر ولم تكن المرحلة تتطلب ذلك ولم يكن هو في الاساس يرغب في ذلك .
عاد موضوع تعليق صور السياسيين الى الظهور مرة اخرى وبقوة بعد عودة حزب البعث الى السلطة في 17 تموز 1968. لقد كان هذا الامر طبيعياً , فالسلطة التي تستحوذ على الحكم بانقلاب عسكري اي بالقوة تعمل على تلميع صورتها وتعريف نفسها بشتى الوسائل والاساليب ومنها تعليق الصور , ومع ذلك فان صور رئيس الجمهورية احمد حسن البكر كانت موجودة ولكن ليس بكثرة لأن نائبه صدام حسين كان قوياً بعد ان ناضل نضالاً مستميتاً الى ان اصبح نائباً لرئيس الجمهورية حيث كان عليه تجاوز عقبات صعبة مثل حردان التكريتي وصالح مهدي عماش وعبد الكريم الشيخلي وعبد الخالق السامرائي وغيرهم , كان تحديد صور رئيس الجمهورية المعلقة بالشوارع أمر يعرفه احمد حسن البكر ولم يعارضه كونه  كان يعلم ما يدور بقربه وحوله .
عندما اصبح صدام حسين رئيساً للجمهورية عام 1979 انطلقت في انحاء العراق حملة منظمة لتعليق صوره واقامة جداريات كبيرة لرسومه ,وقد حصل ذلك لافهام الشعب العراقي ان صداماً هو القائد الاول في الحزب والدولة بعد ان باشر عهده بتنفيذ حكم الاعدام بزمرة من زملائه الوزراء ورفاقه في القيادة القطرية ومجلس قيادة الثورة . ولما كان الرئيس الجديد انيقاً في ملبسه وجذاباً في مظهره ويهوى تغيير زيه في المناسبات وبدون مناسبة فان صوره بازياء شرقية وغربية وانواع السداير والقبعات والملابس العسكرية والمدنية والمختلطة ( نصف عسكرية ونصف مدنية ) انتشرت انتشاراً سريعاً بفضل الرسامين الذين برعوا في رسم صور مبتكرة  له . وقد اخبرني احد العسكريين انهم كانوا يقيمون جداريات لصوره في مواضعهم الدفاعية أثناء الحرب الطويلة مع ايران .. 
لا اعلم إذا ما خطر ببال صدام حسين ان موضوع صوره وجدارياته في الشوارع صار مثاراً لاستهجان واستنكار وتندر المواطنين بعد ان اصبح وسيلة  اعلامية قديمة و بالية في عهد الحاسبات الالكترونية والانترنت .
بعد احتلال العراق من قبل الامريكان وسقوط نظام البعث اختفت كل صور وجداريات وكل شيء يرمز الى صدام حسين بسرعة قياسية لتحل مكانها صور شخصيات دينية عراقية بكثافة .كان ذلك شيئاً طبيعياً حيث لم تكن هناك بعد سقوط صدام حسين شخصية سياسية سنية او شيعية يمكن رفع صورها , ثم ان رفع صور شخصيات دينية شيعية عديدة من دون تنسيق اثبت وجود تنافس وعدم انسجام بينها , فأدى ذلك الى اختفائها وهو حل كان في صالحهم وصالح المذهب .
بعد هذا الاستعراض لتاريخ تعليق صور الشخصيات السياسية والدينية في العراق يمكن القول من دون تردد انها كانت تجربة طويلة  تنطوي على منافع ومضار , وان منافعها اقل بكثير من مضارها  وان تكرارها هو امر غير مجدي في عصر الانترنت والفيسبوك والتويتر والآي فون والاي باد وهي ادوات اعلامية حضارية رائعة لو احسن استغلالها بشكل حضاري غير متخلف بالنسبة للكبار والصغاروتتفوق من حيث التقبل والاقتناع على تعليق الصور في الشوارع . 
اذا كانت تجربة صور السياسيين غير ناجحة  فما هو الموقف بالنسبة لصور رجال الدين ؟ موضوع الدين حساس ومحرج وموضوع المذهب اكثر حساسية و احراجاً , خصوصاً في العراق . 
عندما كان السنة يهيمنون على العملية السياسية في العراق منذ تأسيس الدولة العراقية عام 1921 لم تعلق صورة شخصية دينية سنية واحدة في اي مكان عام وكان لذلك الاجراء الذي لم يصدر بشأنه أمر ولا قانون تأثير كبير على  ادامة التلاحم بين السنة والشيعة . تعليق صور شخصيات دينية في الشوارع العامة يثير حفيظة بعض العراقيين من السنة والشيعة ويثير حفيظة بعض رجال الدين ايضاً لوجود تنافس بين رجال الدين خصوصاً الشيعة وهذا امر معروف لايمكن نكرانه , اذ لا يوجد اجماع شيعي على موضوع ولاية الفقيه لا في داخل ايران ولا خارجها , واذا كانت المرجعية الدينية في ايران قد قد تبنت ولاية الفقيه فهي  لا تمانع في تعليق صور السيد  خميني والسيد خامنئي  في شوارع المدن الايرانية , اما في العراق فليس كل شيعة العراق ولا كل المرجعيات الشيعية العراقية  هم من اتباع ولاية الفقيه , وهذا ينطبق ايضاً على شيعة العالم  , اقول هذا وامامي كتاب الشيخ محمد جواد مغنية المعنون ( الخميني والدولة الاسلامية ) يعلن فيه معارضته لولاية الفقيه كولاية عامة ويعدد المراجع الشيعية التي تتخذ نفس موقفه . 
ان كل الصفات التي ذكرها الدكتور ابراهيم الجعفري في مجلس النواب العراقي بخصوص السيدين خميني وخامنئي صحيحة  , الا انها لا تبرر تعليق صورهما خارج بلدهما , لان هناك العديد من المراجع الدينية الشيعية والسنية تنطبق عليها نفس االصفات  فهل من المناسب تعليق صورهم ايضاً ؟ انا لا ارغب ولا انوي الخوض في موضوع المراجع والشخصيات الدينية المحترمة  لحساسيتها الا انني اتسائل  , هل ان تعليق صور هاتين الشخصيتين في احد شوارع بغداد سيزيد من شأنهما وان ازالتها سيقلل من شأنهما ؟ واذا كان تعليق الصور في الشوارع على هذه الدرجة من الاهمية , فهل تم اخذ رأي السيد خامنئي بهذا الشأن ؟ انا لا اعتقد انه كان سيوافق اذا ما تم اخذ رأيه لانه يعلم ان قيمته لدى المسلمين عامة والشيعة على الخصوص لا تتأثر بالصور والرسوم . ثم متى دخلت الصور والرسوم في الشؤون الدينية ؟ ومتى اصبح ضمير الامة يعلق في الشوارع بدلاً من قلوب وعقول المؤمنين ؟