عبد الباقي يوســـف في روايته الجديدة هولير حبيبتــي شهادة روائية عن بنية إقليم كردستان

 

 

 

 

 

 

هديل شيخموس

هي رواية ، بيد أنها قصيدة عذبة صاغها الكاتب برهافة لغته الشعرية على مدار ثلاثمائة صفحة وهو لايكاد يترك شيئاً عن مدينة هولير إلا ووقف عنده وقفات شعرية .

عندما ينتهي المرء من قراءة هكذا عمل أدبي تاريخي ، ينتابه إحساس أولي بأن قراءة هذا العمل يكون كافياً ليس لمن يريد أن يعرف كل شيء عن هولير ، بل عن خصائص إقليم كردستان وما يمثله هذا الإقليم بالنسبة للشعب الكردي ومهما قرأ من كتب ومؤلفات أخرى ، فإنها لاتغنيه عن قراءة هذه الرواية ، والإستمتاع بدخول أجوائها .

لننظر كيف أن الكاتب يستدرج القارئ ليلج مملكة روايته :

أدرك في لحظات أن هولير ليست كجميع المدن التي سافر إليها ، وأقام فيها .

إنها مدينة الحلم الأزلية التي لاتقبل أن يدخلها المرء كما يدخل غيرها ، أن يقيم فيها كما يقيم في غيرها ، ثم يتركها كأن شيئاً لم يكن .

إنها ترفض ألاّ تتميز عن سائر أخواتها المدن في أرجاء الأرض ، وهي التي استحوذت على قلوب ملوك وأباطرة وجبابرة وسلاطين وقادة الدنيا منذ فجر تاريخها ، هي التي ضعف الجبابرة أمام قدميها ، وهن الملوك أمام سحرها ، إستسلم الأباطرة لبديع قوامها ، خار السلاطين في حضرة هيبتها .

كل ركن في هولير يطفح بلمسة سحرمباركة

كل شيء يتعمد - طوعاً أو كرهاً - في معمودية هولير :

هديل الحمام على أسطح هولير

زقزقة العصافير على أعالي الأشجار في صباحات هولير الباكرة

قباب المساجد في أزقة أحياء هولير

إيقاع سكون الليل في بيوت هولير

متعة المشي الهوينا على فضة أرصفة هولير

حفيف الشجر في شوارع هولير

تذوق قشدة غفوة القيلولة في ظهيرات هولير .

ليس في هولير موضع غير قابل لخفقة عشق

ليس في هولير لمسة غيرقابلة لهمسة قلب

كل ما في هولير يطفح في نظره بألق فتنة الجمال .

حينئذ يشدو فؤاده كما لم يشد من قبل :

ما أبهى خصلات الشمس في ثنايا جدائل شعرك ياهولير

ما أروع معالم غروب الشمس على ضفاف ضواحيك ياهولير

ما أجمل ظهيرات القيلولة في أركانك ياهولير

ما ألذ احتساء قهوة في فيء عصرك ياهولير

ما أطيب عطر العشاء في أماسيكِ ياهولير

ما أعظم شأنك ياهوليرتي

ما أسماك ياهولير وأنت هولير .

إنها حالة من التناغم بين بطل الرواية وبين القارئ حيث يدخلان معاً إلى رحابة عالم هولير ،

هذا هو البطل وهو كردي سوري يدخل مدينة هولير مع عائلته بسبب ظروف الحرب ، ولايفوّت الأديب هنا أن يغتنم هذه النقطة كي يتحدث عن حقيقة مساهمة الكرد في الثورة السورية ، وكذلك يتناول بعضاً من الأحزاب السياسية السورية . ويقوم بتغطية وقائع الحياة اليومية في مخيّم دوميز الخاص باللاجئين السوريين الكرد .

على هذا النحو وكما أن البطل يبدو متلهفاً لينجز ما يترتب عليه من معاملة اللجوء ليتمكن من الإقامة في مدينة هولير ، كذلك يتلهف القارئ ، وبعد حصوله على كامل الأوراق المطلوبة يتجه إلى هولير .

عبق روحانية هولير

عند سكنه في هولير يبدأ في اكتشاف مزايا هذه المدينة ، ولسنا ندري إن كان الكاتب يلجأ إلى شيء من الإسقاط التاريخي ، أو غير ذلك مثل زيارة شخصية بارزة له في المنزل والترحيب به ، فنحن هنا لانكون أمام ذلك ، بل تتجسد مدينة هوليربهيأة صبية جميلة وتقوم بزيارته في البيت في دجى الليل وترحب بزيارته لها ، وهنا تولد مشاعر متبادلة بينها وبينه ، وما يجعل القارئ يذهب إلى ربما زيارة شخصية كبرى له أن الصبية ترتدي علم كردستان كثوب لها ، وبالمناسبة فقد قرأت الكثير من التأويل حول مقدرة الكاتب على تحليل ألوان العلم الكردي . وربما المستقبل سيفصح شيئا ً من هذا اللغز .

هنا تقدم نفسها له بكل قوة قائلة :

أنا هولير

سيدة أمجاد الكورد

قلعتي الشامخة شاهدة على أمجادي

من أجل ضفائري تنازع جبابرة العالم

أعدّوامن أجلي ما استطاعوا من قوة ، ومن رباط الخيل

أقاموا في ربوعي حيناً من الدهر

ثم مالبثوا أن مروا بي مرور الكرام .

انا هولير

فضة أحلام الملوك ،

محط أنظار الجبابرة ،

مكمن أطماع الغزاة ،

مدينة الآلهة الأربعة ،

مقام حاملة الإرث البابلي عشتار المقدسة .

نزهة الساسانيين ،

حديقة البارثيين ،

مخبأ كنوز الفرثيين ،

سياحة السلوقيين ،

كنيسة الآشوريين ،

جوهرة أبناء فارس النفيسة ،

ضفة العثمانيين ،

زهرة إمبراطورية أور الثالثة ،

ساحرة الملك السومري الجميل شوكـــي ،

ملهمة آشور باني بال .

إن هذه الزيارة تكون له مثل السخر بحيث تجذبه كي يقوم باكتشاف ما قالته ، وهنا يصبح القارئ أمام مخزون من المعارف الممتدة عبر التاريخ ، بل حتى يمكن أن يتعلم المرء شيئاً من اللغة الكردية في هذه الرواية ، غنحن أمام مزايا كل بقعة من بقاع هذه المدينة التاريخية والرواية تفصح بكل شعرية معالم روحانيتها:

إن طرقات هولير لاتسمح لغزو موجات الحداثة أن تجتاحها ، وتقتلعها من جذورها ، تستقبل حداثة العالم وهي متجذرة في عراقتها ، لذلك يرى جمالية البيوت الكلاسيكية ، جمالية الأبواب والنوافذ الكلاسيكية ، حتى الأبنية الحديثة تراعي حساسية هولير المعمارية ، حيث تحتل الحدائق ، ونوافير المياه ، وبقع الأرض المغروسة بالورود مساحات جيدة ، لأن هولير تتحسس من ناطحات السحاب ، والضجيج ، وازدحام البيوت .

إنها تشرع مساحاتها الواسعة لأبنائها الذين يشاركونها هذا الميل ، فلا ينظرون إلى إمتلاك أكثر من بيت واحد ، وعندما يجنح أحدهم شطر السعة ، يُقال له أول ما يُقال : بيت واحد يكفي .. زوجة واحدة تكفي .. دكان واحد يكفي .. سيارة واحدة تكفي .. هاتف واحد يكفي .. محفظة واحدة تكفي .

الرواية التاريخية وإشكالية العلاقة بين الوثيقة والمتخيل

هذه ربما من أصعب ما يواجه الرواية التاريخية حيث عليها أن تتميز عن البحث التاريخي بفنيتها ، وبسطوع مخيالها ، وقد واجه أمين معلوف هذه الإشكالية في كبرى أعماله و استطاع أن يتجاوزها .

إنها التجربة الروائية الثانية بالنسبة لكتابة رواية تاريخية في مسيرة عبد الباقي يوسف حيث سبق أن قرأنا له رواية ( إمام الحكمة ) من منشورات وزارة الأوقاف الكويتية سنة 2010

وهي تتناول سيرة الحكمة البشرية ومنزلتها من هلال شخصية لقمان الحكيم .

في هولير حبيبتي يكتب عبد الباقي يوسف رواية تاريخية بخبرة مستنداً إلى تجربته السابقة ، وهذا ليس عملاً سهلاً ، إن لم يكن مغامرة يمكن للروا\ي أن يغامر بتاريخع الأدبي بها ، ذلك أن مدينة أربيل لها مالها من إمتدادات وجذور ، فهي كما تبيّن الرواية من أقدم مدن العالم التي ما تزال مأهولة بالسكان ، ولذلك جاء العمل الروائي متما سكاً ومحافظاً على فنية المسرود الروائي متجنباً المباشرية واللغة التوثيقية التأريخانية وتاركاً للخيال الروائي أن يقوّم لَبِنات الرواية لبنة لبنة في هذا العمل الذي يُعد إضافة حقيقية للمكتبة الروائية ، ووثيقة روائية عن روحانية مدينة هولير - عاصمة إقليم كردستان - وما يتمتع به الهوليريون من مزايا تجعل القارئ في حالة توق لزيارة هذه المدينة والتعرف على طبيعة أهلها .

جاءت الرواية في 300 صفحة وبغلاف يحمل لوحة لقلعة المدينة الأثرية ، ومن منشورات مكتبة التفسير للنشر والإعلان في أربيل ، إقليم كردستان 2013