الإرهاب... وحروب أمريكا التي لا تنتهي...؟

 

حلت ذكرى أحداث 11 أيلول المأساوية، ويفترض بالإدارة الأميركية أن تعيد حساباتها وفقاً لمبدأ الربح والخسارة في سياساتها الخارجية التي جرّت الكارثة لأميركا ولشعوب المنطقة، إلاّ أن إدارة ''أوباما'' لا تزال تصر على ركوب نفس الموجات التي ركبتها إدارة ''بوش'' على مدى دورتين متتاليتين وأوقعت أميركا في دوامة الأزمات السياسية والاقتصادية وجلبت لها الكارثة المالية التي قلبت موازينها الداخلية رأساً على عقب.‏

علينا أنْ نسميَ الأشياءَ بلغتِنا نحنُ. فالحربُ على الإرهاب هي حربٌ علينا لصالح الإرهاب، ونشرُ الدّيمقراطية من قبلِ الغيرِ هو نشرٌ للفوضى. فإذا ما استقرأنا الواقع العربي بالعين الملاحظةِ، وأسقطناهُ على مجرياتِ الأحداث... وما يعصفُ بالعالم العربيِّ بخاصة والإسلامي بعامَّةً... فثمة تساؤلات لابد من طرحها؟!

 

أليستْ أحداث الحادي عشر من أيلول قد اخترعتها الأيادي الخفية الصهيو أمريكية ودبَّرتها ودبلجتها ومثلتها... كما اخترعت قبلها طالبان ودعمتها...؟!

 

أليست أحداث أيلول وطالبان ذريعة للحربِ علينا بحجةِ مكافحةِ الإرهاب... وتمَّ لأمريكا ما أرادت فغزت أفغانستان... مركز أوراسيا كما يُقال... واستنزفتها وغزت العراق بحجةِ وجود أسلحة نوويّة... ودمَّرته وقتلتْ شعبهُ وهجرته وسرقت تراثه وخيراته...!

وبعد ذلكّ هَلْ قضتْ على الإرهاب الذي يزدادُ يوماً بعد يومٍ... ويضربُ عالَمنا شرقاً وغرباً... وطولاً وعرضاً..؟!

 

ما هذه هي الحرية التي أريدتْ لنا...؟! التفتيت والتقسيم... والتقتيل والتمثيل بالجثث...؟!

 

أليسَ كلّ ما يحدث الآن في عالمنا العربي والإسلامي يصب في مصلحةِ الكيان الصهيوني الغاصب؟!

 

بعد أحداث الحادي عشر من أيلول عام 2001 رفعت الولايات المتحدة الأمريكية شعار مكافحة الإرهاب ونصّبت نفسها محامية عن دول العالم وشعوبها علماً أن أمريكا هي أكثر دولة مارست وتمارس الإرهاب من أجل إخضاع شعوب العالم ونهب ثرواتها، وفي ذلك راحت أمريكا تكثر إلى حد بعيد من استخدام مصطلحات (القاعدة) والإرهاب وأسلحة الدمار الشامل بعد أحداث أيلول.

 

إذ ظهرت تلك المصطلحات بكثرة مرافقة للحدث لتهيئة المناخ الملائم للحرب واجتياح مناطق عدة تحقيقاً لمصالح واشنطن وإشباعاً لغطرستها. ناهيك عن تحويل أنظار الرأي العام الأمريكي عند كل ضائقة تصيب الإدارة الأمريكية، الأمر الذي زاد من العمليات الإرهابية وتنوّع أساليبها حتى وصل الأمر إلى إرهاب عالمي، حتى إن الولايات المتحدة استخدمت مجلس الأمن أداة لترهيب أي دولة لا تدور في فلكها.

 

فالحرب على الإرهاب التي أعلنها الرئيس الأمريكي السابق ''جورج بوش'' والتي استمرت في عهد الرئيس ''باراك اوباما'' جعلت حقوق الإنسان ضحية الإرهاب حيث سقط عشرات مئات الألوف من القتلى في أفغانستان والعراق، وقد اعتبرت استراتيجية الأمن القومي الأمريكي أن من أولويات الإدارة الأمريكية تدمير المنظمات الإرهابية ذات الامتدادات العالمية ومهاجمة قياداتها ومراكز التحكم والقيادة والمعلومات لديها وأن أمريكا ستبادر استباقياً للتصدي لأي تهديد ملموس يتعرض له أمنها كما حدث في احتلالها لأفغانستان والعراق وهذا يعطيها الحق للتدخل في أي مكان من العالم وفعل أي شيء بحجة حماية أمنها حتى ولو أدى ذلك لإقامة معتقل مثل غوانتانامو في كوبا وأبو غريب في العراق وتطبيق قوانين خاصة تتنافى مع كل الأعراف والمواثيق الدولية حتى ولو استدعى الأمر أيضا سحق الكرامة البشرية كما حدث في سجن أبو غريب بالعراق، واتسع هذا الحق حتى تجاوز سلطة القانون الدولي والضرب به عرض الحائط.

وما يحصل في منطقة الشرق الأوسط هو أكبر دليل على رغبة الولايات المتحدة الأمريكية في السيطرة على العالم وإحكام سلطتها على منابع الثروات الموجودة في المنطقة وإعادة رسم الخرائط الجغرافية.

ومن يتابع تطورات الأزمة السورية يدرك بشكل قاطع بأن أميركا لا تحارب الإرهاب إلا إذا كان الإرهابيون يهددون مصالحها بشكل مباشر، وأنها على استعداد كامل بالتحالف مع الإرهابيين ومع تنظيم القاعدة وأخواته إذا ارتكب هؤلاء إجرامهم ضد الآخرين، وربما تسوّق أعمالهم كبطولات لابد منها لتحقيق الديمقراطية... وإلا ما معنى أن يكون مجلس التعاون الخليجي وفرنسا في مقدمة الداعمين (لإئتلاف الدوحة) بالمال وبالسلاح، وبالغطاء السياسي؟ وهم يعلمون كما تعلم أميركا التي ترسم مواقفهم بعناية فائقة، بأن ذلك الإئتلاف الذي تم تصنيعه بإيعاز أميركي هو فقط ليقدم الغطاء السياسي للمجموعات الإرهابية التي تمارس الإجرام بحق الشعب على امتداد الأرض السورية (تقتل، وتسرق، وتخرّب، وتفخخ، وتفجر...) دون أي وازع أخلاقي.

لقد اعترف أكثر من مسؤول أميركي بأن تنظيم القاعدة يقف وراء العشرات من عمليات تفجير السيارات المفخخة والعبوات الناسفة في المدن والأحياء السكنية، لكن ما لا يفعلونه هو التوقف عن دعم هؤلاء بشكل مباشر أو غير مباشر... وإصرارهم وإصرار شركائهم في التآمر على الشعب السوري على تلميع ''إئتلاف الدوحة'' المصنع في الخارج، وعلى اعتباره ممثلاً للمعارضة السورية مع أن أكثر من ثلاثين هيئة وحزباً تمثل ملايين المعارضين في الداخل السوري قد أعلنت صراحة أن ''إئتلاف الدوحة'' لا يمثلهم من قريب ولا من بعيد، لأنه يرفض الحوار ويدعم الإرهابيين ويطالب بالتدخل العسكري الخارجي لإسقاط الدولة واحتلالها، وهذا ما تستند إليه روسيا والصين وإيران وجميع الدول التي تقف مع الدولة في وجه المخطط المشبوه الذي يستهدف سورية بشعبها وبقيادتها وبأراضيها، وهذا ما أكده رئيس الوزراء الروسي ''ميدفيديف'' عندما أعلن أن دعم فرنسا لما يسمى (الإئتلاف السوري) يخالف القانون الدولي، وتجديد تأكيد موقف بلاده الداعي لحل الأزمة في سورية بالطرق السياسية وعبر الحوار.

كل هذا يفهمه الجميع، لكن ما لا نستطيع فهمه هو هذا التزايد الكبير في عدد الإرهابيين، وإعادة توزعهم على دول جديدة، وزيادة عدد العمليات الإرهابية، واشتداد فظاعتها، على الرغم من أن إدارة ''بوش''، وإدارة ''أوباما'' فعلت كل ما صنع الحداد في استباحة الدول والشعوب بحجة محاربة الإرهاب وملاحقة الإرهابيين. فتاريخ أمريكا ملطخ بدماء الأبرياء في معظم بقاع العالم من الهنود الحمر، سكان أمريكا الأصليين، إلى هيروشيما وناكازاكي إلى أفغانستان والعراق وليبيا،

وهاهي سورية اليوم التي تواجه مؤامرة كونية تستخدم فيها كافة أشكال الارهاب الذي تنجزه أمريكا وتنفذه أوروبا وتركيا وتدفع قيمته بشيك مفتوح مشيخات البترودولار السعودية والقطرية وتجني فوائده إسرائيل والصهيونية العالمية والسداد يتم من دماء الشعب السوري.

والتصعيد بالعدوان على سورية الذي نشهده يشير إلى حرص أميركا على أن تمر ذكرى خديعة أحداث الحادي عشر من أيلول، مع ما يصرف النظر عنها وعن التأمل في مدى جرميتها ودمويتها، وصرف النظر عن حصادها الذي أدى إلى مجازر كبرى وجرائم إبادة بحق الأفغان والعراقيين والليبيين. وفي هذا الاتجاه نستطيع قراءة ما يحدث هذه الأيام بالترافق مع الجرائم الإرهابية التي يُخطط لها في غرف العمليات الغربية وتنفذ ضد العراق وسورية ومصر، وذرائع السلاح الكيماوي والدعاية السوداء لحرب عدوانية على سورية، بأنه تصعيد في إطار التغطية على الذكرى المشؤومة ومتابعة الأهداف التي نفذت من أجلها الضربات على برجي التجارة العالميين.

ولطالما سعت أميركا إلى محاولة طمس حقيقة أحداث أيلول الأسود ومحو تداعيات الحروب التي شنت على أثرها من الذاكرة العربية والإسلامية من خلال لعبة جديدة، سمتها الشرق الأوسط الجديد، وذلك بإحياء عصور الانحطاط وتمكين مجموعات الإسلام السياسي في المجتمعات العربية، وزجها في التحريض المذهبي على أمل التشويش على العقل العربي وتجميده وإيقاف المد الشعبي المقاوم للحيلولة دون مضي شعوبنا قدماً على دروب التحرر والمعرفة والتنمية، وأيضاً تمكين الليبراليين الجدد واليساريين المتصهينين، وخلق منظمات المجتمع المدني والنخب السياسية التي تُمول مالياً من أميركا وذيولها، أي تنصيب شذاذ الآفاق والطامعين بكراسي الحكم، لإسقاط القومية العربية المناهضة للإمبريالية.‏

لقد انتهت مرحلة الادعاء بأن القوى الإرهابية صاحبة مشروع، فصاحب المشروع هو أميركا والصهيونية العالمية وبقي الإرهاب يتنفس ويتقيأ في ظل الحماية الأميركية المباشرة له.

فالحرب على الإرهاب وفرت للإدارة الامريكية حسب رأيها فرصة لقيادة العالم، فظهرت سياسة القطب الأوحد التي انتهجتها تجاه العالم، كما أن استمرار هذه الحرب والمعارك في أفغانستان جعلت العالم أقل أمناًً على اعتبار أن غزوها يعد أطول حرب دخلتها أمريكا، وأكثرها كلفة وتحدياً من الناحية الاستراتيجية حيث كلفت واشنطن 444 مليار دولار وفقاً لتقرير جامعة براون وباتت أفغانستان في حالة يرثى لها وأكثر عنفاً من ذي قبل كذلك يقدر عدد الضحايا الذين سقطوا في حرب أمريكا على الإرهاب بمئات الألوف في العراق لوحدها.

تنتشر القوات الأمريكية اليوم في 75 بلداً على امتداد العالم، بينما كان انتشارها عام 2010 في 60 بلداً يتبع لها شركات أمنية ومنظمات سرية، لها ميزانيات سرية لا يدرك أحد حجمها لأنها توظف عملاء ومرتزقة يعملون في الظلام. فالحروب الأمريكية القذرة والإجرامية في المنطقة خلال العشر سنوات الماضية والتي فتكت بالبشر والحجر على حد سواء تجسد الإرهاب بكل صوره وأشكاله وهي التي كانت تُدار بأدواتٍ وأسلحةٍ وأيدٍ وعقولٍ أمريكية، أما اليوم فماذا يمكن أن نصفها وهي تُدار بأيدي عملاء و عصابات مسلحة وبتكتيك أمريكي وبتمويل عربي خليجي كما يحدث الآن في سورية (وفق الاستراتيجية التي تتبناها واشنطن حاليا)؟!

فالسياسات التي تتبع لدى الإدارة الأميركية بعد هجمات الحادي عشر من أيلول أخذت أشكالاً مختلفة ومتعددة تحت غطاء محاربة الإرهاب، وهذا يستدعي تسخير جميع المنظمات والهيئات الدولية، الأمم المتحدة ـ مجلس الأمن و... لخدمة المشيئة الأميركية، وبنظر الولايات المتحدة الأميركية كل من يغرد خارج السرب يصنف ويوضع في خانة مساندة الارهاب.‏

 

ورغم إخفاق ''أوباما'' بسياسات الحصار والعقوبات ضد سورية وفشله في العراق وأفغانستان وتورطه باليمن وليبيا وباكستان وبشهادة الاستراتيجيين والخبراء والمحللين الذين أكدوا تراجع الدور الأميركي بالعالم إلا أنه يصر على رفع شعارات دفع عملية بناء الديمقراطية المزعومة في المنطقة العربية وإخلاء العالم من الأسلحة النووية وكأن العالم لا يزال يصدق مثل هذه الشعارات البراقة التي تعمل إدارته عكسها.‏

فالعالم قبل الحادي عشر من أيلول كانت تحكم علاقاته سياسات خارجية وطنية في شكلها الغالب، مع وجود تكتلات دولية منها ما رهن سياساته الوطنية للمركز الأمريكي بعد أن انتقل المركز الغربي إلى أمريكا كناتج عن إرهاصات الحرب العالمية الثانية وأغلبها يكوّن دول الشرق الأوسط ممالك وإمارات وأنظمة مختلفة، وبعضها أبقى على فتات الثقافة الاستعمارية كالمنظومة الفرانكفونية والكومنولث يدور في فلكها الخارجي أنّى توجهت، لكن بعد أن أشرعت الولايات المتحدة الأمريكية سلاحيها العسكري والاقتصادي، وعزز قوة اندفاعها المال والإعلام الصهيونيين، ورمت الولايات المتحدة في وجه الجميع بصاقها السياسي بمقولة من ليس معنا فهو ضدنا كإعلان حرب على العالم، تخلت الفرانكفونية والكومنولث عن قبعتيهما ولحقتا مظلة العم سام، وصار معيار الوطنية لهما هو صناديق الانتخابات التي لم تعد تحكم نتائجها صناديق أصوات الناخبين، وإنما صناديق المال الانتخابي الذي يتحكم بها رأس المال الصهيوني الأمريكي، وهو ما نلحظه اليوم في السياسة الخارجية الأوروبية التي تجاوزت دور التابع للتوجهات الأمريكية، إلى دور السباق والمبشر بها كحال التعاطي مع الأزمة الداخلية السورية بما تحمل من ملامح واضحة لمشروع أمريكي لصالح الكيان الإسرائيلي حيث الإرباك في التصريحات الأمريكية تجاه سورية يتوضح بنقل الاتجاه الرئيسي نحو إيران والتخفيف نحو سورية.

إذا كان هذا هو حال السياسة الخارجية لدول كانت قائدة في السياسة الدولية وأصبحت تابعة، فلن تكون أحوال أتباعها التاريخيين أفضل في كثير من الأماكن، وهو ما دفعني للقول بالسياسة الخارجية الدولية وليس السياسات الدولية، وهو ما أكد صورة عسكرة هذه السياسة طالما تقودها بوارج وحاملات الطائرات الأمريكية تارة إلى أفغانستان، وحيناً إلى العراق، ولاحقاً إلى ليبيا وبعدها لا يعرف إلى أين سوى صانع القرار في البنتاغون وإسرائيل.


إن ما جرى لمكافحة الارهاب والآلية التي اتبعت من قبل أميركا سجلت تغيران مهمان، أولاً في الولايات المتحدة تم موت عدد من الأفكار الجاهزة تزامناً مع ضحايا الهجمات، تلك الأفكار حددت السياسات والموازنات خلال عقد تقريباً، بعضها يعود تاريخه إلى عدة عقود مضت وبعضها الآخر كان وليد اللحظة مع ضربات الحادي عشر من أيلول، وإن كان مشكوكاً في هذه المقولة، فلا يوجد شيء وليد اللحظة مع تاريخ الولايات المتحدة وإنما كله مبرمج ويخدم الغاية المراد تشكيلها ولو أدى الأمر إلى انتظار سنوات لتشكيل الحالة المرادة وفق إطار ممنهج للوصول إلى الغاية المرادة، وهذا يتطلب في أحيان كثيرة استبدال حقائق قديمة بفرضيات جديدة قد لا تقل خطراً عن تلك التي تم التخلي عنها.

 

ومن بين الأفكار التي تم دفنها تلك القائلة: إن التكنولوجيا تجعل من أميركا قوة محضة، وفي هذه الحالة فإن فكرة نظام دفاع مضاد للصواريخ تبدو وكأنها انهارت، رغم معارضة طبقة سياسية واقتصادية استثمرت مصالح لها بقوة على هذا البرنامج، فكرة أخرى انهارت هي تلك التي تؤكد أن التفوق العسكري الهائل مرتبط بالأمن، في حين أن مفهوم الحرب غير المتناظرة يشير إلى أن الخصم العدو يمكن أن يحارب مجتمعاً يمتلك تكنولوجيا فائقة التقدم عبر استخدام تكنولوجيا متواضعة وهذا ما رأيناه في فلسطين وكيف أخذت المقاومة الفلسطينية أشكالاً مختلفة حققت من خلالها مكاسب على الأرض رغم التفوق الإسرائيلي الهائل ويشكل دليلاً حياً على ذلك، إضافة إلى ما جرى في حرب تموز وانتصار المقاومة اللبنانية، التي أعطت الدروس والعبر أن القوة العسكرية والتكنولوجية غير قادرة على تحقيق الانتصار في ظل وجود العزيمة والإيمان والقدرة والتضحية والتي تجلت بأسمى معانيها لدى حزب الله الذي حقق انتصاراً يدّرس في الأكاديميات العسكرية العالمية.‏

وهذا يجعلنا نؤكد على أن هناك حالات لم يكن فيها التفوق الساحق دائماً لصالح الفريق الأقوى، وهو ما جاء في دراسة أجريت والتي شملت (197 حرباً تم رصدها) وأظهرت أن نحو 35 في المائة من هذه الحروب تم ربحها من قبل الفريق الأضعف، كل شيء يتوقف على الخيار الاستراتيجي وتصميم الأطراف المتصارعة، فكرة أخرى صنفت خطرة وضارة، تقول: إن الحرب ضد الإرهاب يمكن ربحها على غرار تلك التي أعلنت ضد المخدرات، لكن القضاء على الرأس المدبر لا يعني بالضرورة هزيمة الخصم، فإقصاء ''بابلوا سكوبار'' لم يحمل النصر على عصابات المخدرات والقضاء على ''بن لادن'' وتنظيمه لن يؤدي بالضرورة إلى اجتثاث الارهاب الشامل، فالارهاب ليس مرضاً ذا طبيعة أمنية فحسب بل سياسية أيضاً.‏

التغير الثاني تمثل في وعي مفاجئ لمهمة لم تكتمل غداة نهاية الحرب الباردة، فالنظام العالمي الجديد الذي بشر به ''بوش'' الأب بعد غزو العراق، كان يعلن اقتصاد السوق على مستوى العالم بأسره، شمولية للمبادلات الاقتصادية والثقافية وحتى الاجتماعية، بفضل استخدام الثورة التكنولوجية للمعلومات على الاتصالات والنقل والحواسب.‏ فالكثير من المراقبين والباحثين السياسيين يخلط بين ميول هيمنة لأميركا امبراطورية وبين ظاهرة العولمة، فهما لا يعنيان نفس الشيء حتى عندما يشير الخطاب المهيمن إلى العولمة، كون الولايات المتحدة قوة عظمى، حتى إنها تعتبر نفسها فائقة القوة، بكل الظروف هذا لا يعني أن العولمة مرتبطة بهذه الهيمنة.‏

الظاهرتان متمايزتان، فالهيمنة سلوك سياسي عسكري اقتصادي واجتماعي وثقافي، أما العولمة فهي حالة قائمة لا رجعة عنها نجمت عن الثورة التكنولوجية وأفرزت نتائج اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية، في الواقع العولمة وجدت منذ القدم، منذ أن دخلت المجتمعات البشرية في مبادلات وتجارة، والذي اختلف هو ببساطة وتيرة هذه المبادلات والتجارة التي تعكس المستوى التكنولوجي للمرحلة، صراع الامبراطوريات الاستعمارية للسيطرة على طرق التجارة استبدل بالصراع على النفط، فالمبادلات كانت دائماً وستبقى ولكنها تأخذ أشكالاً مختلفة.‏

وفكرة عدم تعرض السياسة الأمريكية القاتلة للاتهام والتشكيك من قبل الرأي العام الأمريكي تكشف عن مقاربة هامة إزاء ''الآخرين'' بخاصة والمسلمين عموماً، وعلى الرغم من التعتيم الإعلامي الرسمي واللامبالاة العامة بدأت الأمم المتحدة وبعض المنظمات غير الحكومية تجري دراسات إحصائية وبدأت تتلمس النتائج القاتلة لهذه الحروب.

والبداية من أفغانستان التي أطلقت فيها أول رصاصة ضد الإرهاب، فقد أشارت معظم الدراسات إلى وجود 4000 إلى5000 مدني قتلوا جراء العمليات العسكرية الأمريكية والأطلسية فقط في عام 2001، فيما لم تتوفر أي معلومات عن أرقام الضحايا الذين سقطوا عامي 2003 و2005.
أما في عام 2006، فقد أحصت منظمة ''هيومن رايتس ووتش'' سقوط 1500مدني أثناء المعارك من عام 2007 وحتى تموز 2011. وقدرت المهمة الإنسانية في أفغانستان عدد القتلى بـ 10292، إلا أن هذه الأرقام لا تتضمن الجرحى والقتلى المفقودين. أما صحيفة ''الغارديان'' فقد أشارت إلى أن هناك على الأقل 20 ألف مدني قتلوا عقب نزوح السكان، وبسبب الجوع الناجم عن وقف الإمداد بالغذاء في العام الأول على الحرب، إضافة إلى هروب 300 ألف آخرين إلى دول الجوار، و500 ألف إلى مناطق داخلية.

أما في العراق، هناك 11500 مدني قتلوا جراء العمليات العسكرية من عام 2003 حتى آب 2011. وحسب دراسة الصحة الأسرية في العراق التابعة لمنظمة الصحة العالمية، فهناك 150 ألف مدني سقطوا فقط في الأعوام الثلاثة الأولى للحرب، وإذا ما أضيف إليهم عدد القتلى بطريقة غير مباشرة فإن الرقم يرتفع إلى 600 ألف في الفترة نفسها.

دراسة أخرى تشير إلى سقوط مليون مدني في منتصف العام 2007 جراء العمليات العسكرية، وأعمال العنف إضافة إلى تهجير مليوني عراقي إلى الدول المجاورة، معظمهم لجؤوا إلى سورية، وعلى الرغم من عدم توفر أي معلومات عن حالات الوفاة غير المباشرة ولا عن الجرحى إلا أن انهيار نظام الصحة العراقي، والبنى التحتية يشيران إلى كارثية العدد.

الحرب الأمريكية على الإرهاب لم تقتصر على العراق وأفغانستان، بل امتدت لتطال دولاً أخرى مثل باكستان، اليمن والصومال، حيث استخدمت واشنطن فيها الأسلحة الثقيلة والطائرات دون طيار، وقوات العمليات الخاصة، وعملاء الاستخبارات السرية إضافة إلى القوات الحكومية في هذه الدول، وجراء طبيعة تلك العمليات السرية، فإن من الصعوبة بمكان إحصاء خسائرها في ظل غياب معطيات مستقلة، ولكن يتفق الجميع على أن عدد الطائرات المستخدمة في باكستان، اليمن، الصومال كان كبيراً وبالتالي يكون عدد ضحايا غاراتها مرتفعاً جداً.

ويشار هنا إلى أن الحرب على الإرهاب أنقذت الاقتصاد الأمريكي من الانهيار واتجه العديد من مراكز البحث لدراسة كيفية تحويل مصانع السلاح إلى الإنتاج المدني بينما اتجهت مراكز أخرى للبحث عن استراتيجية بديلة لاستراتيجية الردع الشامل شرط احتفاظ صناعة السلاح بحركتها الإنتاجية نظراً لأهمية صناعة السلاح في الاقتصاد الأمريكي كون ثُمن العمال في أمريكا يعملون في صناعة السلاح وأن 25 في المائة من الأجور تأتي من صناعة السلاح، وأن الآلاف من رجال القوات المسلحة بخاصة القادة منهم وبعد تقاعدهم يعملون في هذه المصانع ومعدل الربح في صناعة السلاح يعادل عشرة أضعاف المعدل في الصناعة المدنية ودورة رأس المال أسرع في صناعة السلاح مما دعا أمريكا إلى التفكير فيما يسمى بالحرب على الإرهاب والتي أدت إلى تزايد اعتمادات ميزانية وزارة الدفاع وانتعاش الاقتصاد الأمريكي وإلى انتشار الإرهاب في العالم أيضاً.

ومن خلال ما تقدم نجد أن امريكا استطاعت توظيف الإرهاب في تحقيق وجود دائم في مناطق النفوذ والمصالح وتحويل مكافحة الإرهاب من هدف الى وسيلة لتحقيق مصالحها الاستراتيجية المتمثلة في التمدد في منطقة بحر قزوين التي تحوي ثالث أكبر احتياطي نفطي في العالم وإضعاف النفوذ الإقليمي لروسيا كذلك تدعيم الوجود الأمريكي في العراق بما يخدم مصلحة إسرائيل ومخططاتها وقطع الطريق على الصين ونسف مشروعاتها لإعادة طريق الحرير والقضاء على أي احتمال لبروز قوة عربية مناهضة لأمريكا وإسرائيل. ‏‏

الولايات المتحدة تعتبر نفسها في الوقت الراهن اللاعب الوحيد القادر على فرض رؤيته الكونية للنظام الذي يناسبه، فنتائج الحملة العسكرية ضد أفغانستان بدأت تظهر وتتشكل لدى الأنظمة الموجودة في المنطقة وحتى خارجها، فالتيارات الإسلامية التي تمت رعايتها من دول في المنطقة وبمساندة من الغرب وتحديداً على رأسها الولايات المتحدة الأميركية لأسباب تتعلق بالحرب الباردة والتي أضحت غير ملائمة الآن وخصوصاً أنه توجد في المنطقة بلدان لا تتفق أو تنسجم مع متطلبات النظام العالمي الجديد. في الواقع النظام العالمي الجديد يفترض اندماج الدول العربية والإسلامية في هذا النظام الذي حددته عولمة للمبادلات وللعلاقات الإقليمية وبما أن أحد شروط هذه العولمة يفترض حداً أدنى من الحرية الاقتصادية، يترتب على ذلك بالضرورة نوع من تحرر المجتمعات، ولابد من القول إن كل هذه الانظمة الحليفة للولايات المتحدة ذات طابع تسلطي وحتى بعضها يعتبر ديكتاتورياً وهي مكروهة من شعوبها، اندماج هذا الواقع الإسلامي في نظام عالمي جديد يفترض إذاً تغييراً عميقاً على هذه الأنظمة وهذا ما سيتم لحظه في الفترة القادمة وكيف أن الولايات المتحدة الأميركية ستنقلب على حلفائها مقابل خلق معطيات جديدة تهدف إلى حماية وترسيخ المصالح الأميركية.

ووسط تساؤلات كثيرة يطرحها المراقبون عن النظام العالمي الجديد وإزاء وجود قوة تآمرية خفية تسير دول العالم نحو عصر مخيف مبهم المعالم أكد موقع ''غلوبال ريسيرش'' الكندي أن الولايات المتحدة تمثل روح هذا النظام وتقوده بهدف وحيد وهو الهيمنة على السياسة الدولية. مشيراً إلى أن أميركا وفي ظل ما يمثله النظام العالمي الجديد الذي يشكل شكلاً من أشكال الاستعمار القديم لكن بحلة جديدة، تتصرف كزعيم مطلق لا تحترم أي قانون دولي بما في ذلك قوانينها ودستورها الخاص ولا تأبه بسيادة أو استقلال أي دولة على الإطلاق، بهدف التحرك بشكل ممنهج وسريع لتبسط سيطرتها الكاملة وتصبح الديكتاتور الأول في العالم.


وحول الهيمنة التي تحاول أمريكا فرضها من خلال التدخل السافر في شؤون الدول الأخرى، قال الموقع: إن بإمكان واشنطن فرض عقوبات على دول أخرى وتنفيذها من خلال قطع العلاقات مع الدول التي لا توافق على نظام المدفوعات الدولية، مشيراً إلى أن النظام الأمريكي الحالي حذر بريطانيا من أن انسحابها من الاتحاد الأوروبي يشكل انتهاكاً لمصالح الولايات المتحدة، وبريطانيا بالتالي لا تستطيع إلا أن تنصاع لأوامر واشنطن وتتخذ قراراتها ضمن تلك الأوامر، ما يوقع لندن بمأزق يصعب الخروج منه ويجعل من الاتحاد الأوروبي لعبة في يد أمريكا في نهاية المطاف