الحكومة العراقية وسيناريو ما بعد الأسد

 

منذ أن ارتكب صدام حسين خطأه الاستراتيجي القاتل باجتياح الكويت في صبيحة 2 آب 1990 أخذت بغداد تتدحرج بعيدا عن دورها كعاصمة إقليمية مؤثرة في صنع القرار الاستراتيجي في المنطقة والعالم، في الوقت الذي تصاعد دور عواصم إقليمية أخرى هي طهران وأنقرة والرياض والقاهرة والدوحة، فضلا عن عواصم إقليمية أخرى مدعومة أمريكيا، وارتبط تنامي دور هذه العواصم بطبيعة العلاقات التي تربطها بعواصم القرار الدولي، كواشنطن ولندن وباريس وموسكو.. وبعد الاحتجاجات الشعبية التي شهدتها المنطقة العربية منذ عام 2011 اخذ دور القاهرة بالتراجع نوعا ما، وإذا لم يستطع صناع القرار فيها تجاوز أزماتهم الداخلية، وتنظيم صفوفهم، فربما تتدحرج – أيضا - نحو الأسفل هذه العاصمة العربية المهمة.

إن أخذ هذا البيئة بنظر الاعتبار من قبل صانع القرار العراقي، يشكل ضرورة سياسية قصوى لترتيب أوراقه، وتخطيط مواقفه، لأنه منذ عام 2003 والساسة العراقيين لاهيين عن إدراك بيئتهم الداخلية والخارجية التي يتحركون فيها، معتقدين أن بغداد لا زالت تعيش في أوج قوتها وقدرتها على التأثير في الأحداث الإقليمية التي تحيط بها، وخير دليل على ذلك الكيفية التي تم تعامل بها مع الملف السوري، فمنذ اندلاع موجة العنف المسلح في هذا البلد، حاولت السياسة الخارجية العراقية التأثير على سير الأحداث هناك من خلال إطلاق عدة مبادرات لحل الأزمة سياسيا، كان آخرها مبادرة رئيس الوزراء العراقي في منتصف الأسبوع الماضي.

لكن هذه المبادرات لم تجد لها صدى عند أطراف النزاع الداخلي وداعميهم الإقليميين والدوليين، بل لم يتجاوز صداها الطرح الإعلامي العراقي، كما عملت السياسة الخارجية العراقية على إعلان حياديتها ونأيها بنفسها عن التورط بدعم طرفي النزاع، محاولة اخفاء رغبتها في انتصار النظام السوري على خصومه، خوفا من مجيء بديل معادي يهدد أمن العراق واستقراره، ويقلب الطاولة على بعض اللاعبين الإقليميين، لذا تجد أن الحكومة العراقية تغض النظر عن الدعم البشري والمادي الذي يلقاه هذا النظام من العراق وعبر العراق، على أمل أن يخفى ذلك على القوى الراغبة بإسقاطه، لكن الحقيقة هي خلاف ذلك، فما تنشره مراكز البحوث والدراسات، وتقارير الاستخبارات الغربية، يبين أن دور العراق الخفي في دعم النظام مكشوف ومؤشر ببيانات وإحصائيات دقيقة لا تقبل الإنكار.

إن عدم إدراك البيئة التي يتحرك فيها صانع القرار، وضعف المعلومات لديه يشكلان أكثر الأخطاء التي تهدد رسم سياسة خارجية ناجحة، وهذا الأمر يحتاج إلى تلافيه في العراق، ولتلافي ذلك لابد من إدراك أن التعامل مع الملف السوري المعقد، يتطلب عدم رمي الرهانات العراقية في سلة واحدة، من خلال التمسك بسيناريو انتصار النظام السوري، الذي يبدو انه سيناريو فاشل سيهدد المصلحة الوطنية العراقية في الصميم في حالة عدم تحققه، نعم إن الحكومة العراقية ولو لم تصرح بذلك تحاول أن تبقي على ترابط وتماسك الجبهة الممتدة من طهران مرورا ببغداد وسوريا وصولا إلى لبنان، لكن هذه الرغبة قد تعاندها تقلبات الأحداث، خاصة إذا علمنا أن القوى الفاعلة في هذه الجبهة غير مستعدة لبلوغ درجة الانتحار في دعم أطراف الصراع، والمقصود بذلك طهران وموسكو، والدليل على ذلك أنه ما إن ظهرت احتمالات لتدخل عسكري غربي في سوريا إلا وصدرت تصريحات في كلا العاصمتين تدل على عدم استعدادهما لإعلان حرب من أجل سوريا، وقد صدر ذلك على لسان كبار المسؤولين هناك.

لذا فان انفتاح السياسة الخارجية العراقية على سيناريوهات أخرى، ربما يكون أكثر فائدة، لان الصراع في سوريا ليس صراعا بين نظام حاكم وشعبه، بل هو صراع بين قوى دولية وإقليمية متخندقة في محاور محددة، تستغل كل الشعارات والقدرات لكسر خصومها، حتى يكون الانتصار في الساحة السورية ممهدا لانتصارات في ساحات أخرى، وفي حالة سقوط نظام الأسد، وقيام نظام غير ودود وربما معادي اتجاه العراق في سوريا متحالف مع محور أنقرة والرياض وواشنطن ولندن و(إسرائيل).. فان ذلك سيعني محاصرة حزب الله في لبنان واشغاله بمشاكل داخلية، وقطع المدد الخارجي المادي والعسكري عنه، وانتقال الصراع إلى ساحة أخرى تتصارع عليها المحاور الإقليمية والدولية، وستكون هذه الساحة هي الساحة العراقية الهشة سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا، أي أنها ارض خصبة لتلافي الصراع وجها لوجه بين القوى الرئيسة المتصارعة، طبعا وسيكون هذا البديل في مصلحة الجميع إلا العراق، فهو في مصلحة إيران ومن يدور في فلكها، كما هو في مصلحة خصومها، لان كلا الجانبين سيحاول إن يبرز قدراته بوجه الطرف الآخر في ساحة بديلة تجنبه المواجهة المباشرة.

ولتلافي هذا السيناريو الكارثي على العراق، قد يكون من المفيد انفتاح الحكومة العراقية على الإطراف المؤثرة في المعارضة السورية، وان تدخل طرفا رئيسا ومؤثرا بالمشاركة مع القوى الإقليمية والدولية في دعم تلك الأطراف التي تكون معتدلة في خطابها السياسي اتجاه العراق، والتي يكون همها إعادة بناء الدولة السورية لتكون أكثر انفتاحا وديمقراطية، وعلى الحكومة العراقية التركيز في تعاملها مع الازمة السورية على الثوابت الجديدة التي أعيد على ضوئها بناء الدولة العراقية بعد عام 2003، تلك الثوابت التي تقوم على الديمقراطية، وحكم القانون، والتداول السلمي للسلطة، واحترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، والاعتدال السياسي وقبول الآخر، وغيرها من الثوابت، نعم الجميع يتمنى لو أن التغيير في هذا البلد تم بإرادة أهله واستعداد نظامه الحاكم لقبول التغيير، لكن ذلك لم يحصل للأسف، فليكن العراق أمينا لثوابته السياسية الجديدة، ولتحكم هذه الثوابت سياسته الداخلية والخارجية، ولتكن مقياسا على التدخل والتأثير في الأحداث الإقليمية والدولية، والانطلاق من هذه الثوابت يتطلب أن لا يكون العراق – أحيانا – محايدا في سياسته الخارجية، فقد يكون هذا الحياد مضرا بالمصلحة الوطنية العليا، إذ لا حياد مع من يخالف هذه الثوابت الإنسانية، وان دعم القوى التي تنادي بها في سوريا أو غيرها قد يعيد لبغداد تأثيرها الإقليمي من جديد، ويوقف تدحرجها نحو الهاوية، ويبعد عنها مخاطر جعلها ساحة لتصفية حسابات الآخرين وعملهم من أجل مصالحهم الخاصة، ولتأخذ الحكومة العراقية العبرة من قطر، فعلى صغر هذه الدويلة، يجد المراقب أن استثمارها لقدراتها في دعم قوى سياسية معينة في المنطقة، قد زاد من تأثيرها الاستراتيجي، وهذا ما كان ليتحقق لها لو مارست سياسة الحياد السلبي، لذا يمكن ختم هذا المقال بدعوة الحكومة العراقية مرة أخرى إلى أن لا تضع كل رهاناتها في سلة واحدة عند التعامل مع الملف السوري أو غيره من الملفات.