العراق.. أسئلـــة تلـد أخــرى |
عدم وضوح الرؤية وضبابيتها ... وإختلاط الأفكار والشعارات ... وتداخل المفاهيم والرؤى تشكل شطراً هاماً وسبباً رئيساً لأزمتنا الإجتماعية والسياسية المتفاقمة في العراق ... الأشياء تسمى بغير أسمائها الحقيقية ... والظواهر يتم توصيفها بعيداً عن جوهرها .. والعناوين توضع خطأ لمضامين مختلفة... وهكذا يصاب الوعي الإجتماعي عندنا بالضرر ويتأخر نضوجه ... ويستغني عن العلاجات الفعالة لتحل المسكنات والجرعات المهدئة بديلاً عنها... هذه المقدمة لابد منها لفهم كثير من الظواهر ببلادنا ... ولتفسير العديد من الأحداث والتطورات فيها... خذ مثلاً المطالبات الأخيرة بإلغاء رواتب النواب واصحاب المناصب العليا وإمتيازاتهم ... فما هو تعريفها ... وكيف ينبغي قراءتها كحدث إذا ما أردنا القراءة العميقة المستبصرة ...؟؟ إنها ببساطة شديدة لا تحتاج إلى أي ذكاء ... صورة واضحة من صور الإحتجاج على النظام السياسي برمته ، وعلى أداء هؤلاء النواب ، وعلى الطريقة التي تفرز بها «النخبة» في العراق ، ويتم تشكيلها، وإلا فهل يعقل أن يشكل راتب النائب أو المسؤول قضية بذاتها وبهذا الزخم ... !!!؟ الجماهير المعترضة وكل هذا الحراك السياسي يحدث ليس بسبب أن النائب يأخذ خمسة أو ستة أو سبعة الاف دولار ... فلو كان هناك قناعة بأداء هذا النائب لما وجدنا أية مظاهر إحتجاجية والأمر الطبيعي أن يحصل موظف الخدمة العامة تقاعداً أو إستحقاقاً تزداد قيمته مع حجم مسؤوليته وموقعه، هذا يحدث في الدنيا كلها وليس في العراق إستثناءاً من هذا العالم، لكن الأمر الذي فجر السخط لدى الرأي العام في العراق هو «تهافت الأداء التشريعي وإنحداره» ، وبالطبع فإن «الأداء التنفيذي ليس أسعد حالاً» حتى بات المواطن لا يرى أية عدالة في أن يتقاضى هذا النائب أو المسؤول أي إستحقاق من الدولة مهما كانت قيمته ... لن أتردد في القول أن « العلة تكمن في الناخب وليس في النائب « ، وما أذكره لا يعد إنتقاصا من وعي العراقيين وذكائهم وقدرتهم على الإختيار بقدر ما هو إدانة واضحة للشرنقة الثقافية والإجتماعية التي تمسك بخناق المواطن العراقي منذ عام 2003 ، والتي لم يستطع التحرر منها حتى الآن، أنه إدانة للناخب الذي يختار و للجهات الثقافية و الاجتماعية التي تمنح التزكيات و للاحزاب والقوى السياسية التي وضعت هذه الأسماء على رأس قوائمها ، وفي الواقع فإن هذه النماذج التي يطالب المتظاهرون العراقيون اليوم بإلغاء إمتيازاتها ليست سوى إفرازات المركب الفكري والسياسي والإجتماعي المليء بالضحالة والتزمت الذي يعيشه مجتمعنا ... وإذا كانت هناك الكثير من النقد قد تم توجيهه إلى «النائب» في الفترة المنصرمة، فإن الإنصاف والموضوعية يقتضينا أن نتوجه إلى الناخب أيضاً ، فالأول هو حصيلة إختيار الثاني، ولا تبدو المشكلة محصورة في التشكيلة الحالية لمجلس النواب ولا تقتصر عليها و بالتأكيد فأنها أعمق من ذلك ، ومن هنا تتوالد الأسئلة ... فمن يضمن أن الناخب العراقي سيدفع «بوجوه أفضل» إلى مجلس النواب القادم...؟ وهل تملك القوى السياسية الفاعلة حقاً مثل هذه الوجوه والعناصر التي تتميز عن سابقتها...؟ وعلى إفتراض توافرها فهل تستطيع الفكاك من ثقافتها والمعادلات التي تحكمها وبناء نموذج جديد ...؟؟ هل سيفرز المجتمع العراقي في ظل المرارة وخيبته الأمل الذي تستولي على مواطنيه «نخبة سياسية» تختلف عما قبلها ...؟ وهل أن مشاعر السخط والتذمر السائدة ستصنع «تيار تغيير» هادر يتعذر التصدي له، أو الإلتفاف عليه ...؟ وإذا ما برزت «نخب جديدة» فهل ستولد من نفس رحم الثقافة السائدة ومن داخل القوى السياسية النافذة أم أنها ستأتي من خارجها ...؟؟ تحتل دراسات «النخب» موقعاً هاماً في المباحث السياسية المعاصرة ، وتتركز في العادة حول «نشوء النخب» و»دورها» و»صراعاتها» ، والخلاصة التي غالباً ما تركز عليها هذه الدراسات هي أن «دور النخب هام وأساسي في أي مجتمع ، وإذا ما صلحت النخب صلح حال المجتمع والدولة» ... وتبدو هذه النتيجة التي استخلصتها الدراسات الحديثة متوافقة إلى حد كبير مع فهم الإسلام لدور «القيادات» و»القادة» ... غير أن «النخبة» ليست نبتاً شيطانياً يولد من فراغ ... فهي حصيلة قيم المجتمع وثقافته ... وإبنة البيئة الإجتماعية .. وثمرة السياق والتطور التأريخي ...وإذا ما أردت أن تبحث في أمر النخب فلابد من الوقوف عند هذه المحطات. لن تجد اليوم في العراق مائة فرد يمكن لهم قبول فكرة أن هذه «النخبة المفترضة» التي تتصدر المشهد السياسي هي أفضل ما يمكن أن ينجبه البلد من القيادات ، وما يكتنزه من الكفاءات ... وإذا كان الأمر بهذا الوصف حقاً، فكيف أصبحت هذه النماذج هي «النخبة» ، وفي ظل أي نظام سياسي برزت ومن رحم أية ثقافة ولدت ...؟؟ الأسئلة تتكاثف حول «آلية صناعة النخبة» وكيف يصبح المرء من «سعداء الحظ» ويحجز له مقعداً في الواجهة، وهذه الأسئلة هي بالتأكيد أعمق من التساؤلات ... والإعتراضات ... أو الإنفعالات... التي قد تثور لأن «س» أو «ص» يجلس في الواجهة ... أو يصنف ضمن «النخبة» . تلك هي التساؤلات «الأهم» و»الأجدر بالطرح» في المشهد العراقي اليوم … |