بعد احتجاجات المنطقة الغربية على سياسات حكومة السيد نوري المالكي خرجت بعض الأصوات، ربما مدفوعة الأجر أو بدوافع الكراهية المذهبية، من رحم تلك الاحتجاجات مطالبة بالتقسيم وإعلان الطلاق النهائي عن كيان الدولة العراقية. وخرجت الأصوات نفسها في إقليم كردستان تنادي بالانفصال بعد موجة الخلافات السياسية وأزمة الاتهامات بسرقة النفط المتبادلة بين المركز والإقليم. ولم تعد المناداة بالتقسيم مطلباً لتجار السياسة فقط، بل تطورت لتصبح رغبة حقيقية لدى بعض رجال الدين وقواعدهم الشعبية فيما يعرف بالمحافظات السنية وكذلك هي بالأساس مطلب تأريخي لدى الشعب الكردي.
إذاً لم تعد المناداة بتقسيم البلد مجرد أمنية كردية مكتومة في الصدور أو هلوسة على منصات التظاهر. لقد باتت أخطر من ذلك بكثير إذا ما علمنا أنها زحفت لقلوب عامة الناس. أي أن الرغبة المكتومة قد خرجت من قمقم الصدور إلى هوس اللسان.
ولكن لماذا سكت زعماء الشيعة عن إعلان رغبتهم هم أيضا بالانفصال وتأسيس دولتهم؟ هل بسبب وطنيتهم المفرطة وتمسكهم بوحدة العراق، أم بسبب حاجتهم لمزيد من الوقت لمعرفة حقيقة قناعاتهم في ترسيخ وحدة البلد أو في تقطيع أوصاله؟
ما هو مؤكد وحقيقي ان وحدة العراق لا تعني من قريب أو بعيد الطبقة السياسية العراقية بجميع مكوناتها. فالمعروف أن هذه الطبقة مهمومة بجزئياتها ومنجرفة مع تيار الاستحواذ الشرس على مكاسب ومغريات السلطة. وقد انعكس هذا الواقع بدرجة أو بأخرى على شريحة كبيرة من قواعدهم الشعبية. والمكون الشيعي ليس بمنأى عن هذا الأمر، فلديه من الحجج ما يكفي لمنحه الأحقية في تأسيس دولته المستقلة عن (جشع الأكراد وإرهاب السنة). والصمت الشيعي إزاء تحول المواقف في الشارع العراقي لا يبرره سوى رغبة أكيدة في تثوير حالة دعائية تفرضها مسؤولية المناصب السيادية والهيمنة التاريخية على مفاصل الدولة الإدارية ومنظومتها الأمنية. وهي بالمحصلة تسويق لإرادة غير حقيقية تخفي وراءها قناعة بعبثية البقاء في ظل دولة عراقية موحدة، فضلاً عن عدم نضوج الفكرة في الوسط الديني الشيعي لحد الآن. وبالتالي فإن الطبقة السياسية الشيعية، وهي مذهبية بالمطلق، لم تبلور خطابها الطائفي باتجاه فكرة التقسيم لانعدام الثقة فيما بينها على الأقل في حدود وعيها الديني الضيق. كما أنها وضعت أسبابا أخرى أقدس من المقدس نفسه تتعلق بأحقية طرف على حساب طرف آخر في تقسيم ثروات الجنوب والاستئثار بها، وهذا هو الأهم في مرحلة ما بعد التقسيم.
عمليا يتطلب الجهر بالتقسيم أو دعمه خفية وجود حالة شعبية تدعم بعض الرؤوس المتنفذة على الأرض. وفي الجانب الشيعي يكاد يكون مطلب الجماهير غائبا بهذا الاتجاه، فيما تبقى الرغبة مكتومة لدى بعض متصيدي الفرص. ونتيجة لذلك تسير عجلة ساسة الشيعة على النحو الذي فصلوه على هواهم، مع الإبقاء على محاولات تمتين وجودهم على الأرض لحين نهوض هزة سياسية من العيار الثقيل ترجرج أذهان الناس وتصبح الأرض بذلك خصبة لتوليد معادلة النفور من الآخر ورفضه تماما.
وعلى افتراض قيام دولة الشيعة في الجنوب، وبغض النظر عن شكلها السياسي، مع فرضية بقاء الوجوه والأحزاب الدينية والمليشيات الحالية كما هي من دون أي تغيير في المنهج أو السلوك، وكذلك مع مواصلة الشارع الشيعي غيبوبته الطويلة واحتكامه لفلسفة البكاء على الأطلال منهجاً في الحياة، يلوح في الأفق سؤال يفرض نفسه فرضا هو (من سيحكم؟)
بقيام جمهورية كردستان ستكون فرصة نجاحها قائمة بدرجة كبيرة طبقا لمعطيات قراءة الواقع، وسيكون مصدر قوة هذه الدولة نابع من قدرة ساستها على كسب ود الأتراك ومناوراتهم الصريحة مع حكام البيت الأبيض وغير الصريحة مع دولة إقليمية لعوب. وبقيام إمارة (سنة ستان) ستنهض دعائم دولة خليجية جديدة يباركها آل سعود وآل ثاني وبقية ممالك العربان، وستتمكن هذه الإمارة من تأسيس كيانها المستقر بعيدا عن فوضى نطاق المنطقة الخضراء وهموم القائمين عليها.
ولكن ماذا بعد قيام جمهورية (شيعة ستان الإسلامية)؟ لمن ستؤول إدارة أوقاف المراقد المقدسة في كربلاء والنجف؟ ومن سيجلس رغما عن أنوف الآخرين على جودلية المرجعية الدينية؟ والأهم من هذا وذاك أي البنادق سيعلو رصاصها عند منابع النفط وموانئ التصدير؟