لا وقت للنظافة

 

تتحول بغداد إلى مكانٍ طارد للحياة. إنها مدينة "وسخة"، ويمارس سكانها تعايشا قاسيا مع النفايات.

لم تعد مشكلة النظافة في المدينة مقتصرةً على ما تقوم به أمانة بغداد. العمال الذين يشتغلون فيها ليسوا مستوردين من مدن نظيفة، هم أيضاً من أولئك الذين يعيشون في أزقة تختنق بأكوام النفايات، بينما دائرتهم، لم تزل تعمل على وفق نظام متهالك غير مجد، لا يقوم سوى بتدوير أزبال الناس من هذا المكان إلى جواره.

تفشي ثقافة قبول الأزبال، واندثار المساحات الخضراء، متعلق على نحو خاص، بقيم اجتماعية جديدة.

لقد فرضت ظروف امنية وسياسية قاسية على المجتمع حالة نكوص حادة، وتراجع الاهتمام "الطبيعي" بالحياة، والحرص على أن يشهد المرء في هذه المدن صوراً نظيفة، وأمكنة لائقة بالبشر. العنف، ودوامة القتل، وهاجس الخوف الدائم بأن الموت ينتشر في الشوارع، يترقب فريسته، في أي لحظة، تجعل البغداديين يكفون عن مدينتهم، وينهون عن نظافتها.

لن تنظف شوارع يملكها الموت.

فكرة أن الموت عند النواصي، والساحات والتقاطعات، وأبواب المدارس والمساجد والنوادي، والملاعب والمقاهي، ان الموت في كل مكان، تجعل الحياة وسخة.

فكرة أن الموت بقربك، لا تبدو متاحة لأن تشهد حياة نظيفة، فكل الاحتمالات أسيرة الخوف، والكل متلبس بفكرة: انا على وشك النهاية، برصاصة، او شظية، أو عصف وسكتة قلبية.

لا مجال للنظافة.

أحاول أن اتبنى فكرة أن الموت ليس نظيفاً، لأبرر كل هذه الازبال.

لم اكن شجاعاً لأقول إننا "وسخون". وإلا كيف يتمكن المرء من العيش وسط حقول أزبال تمتد من المنزل إلى كل مكان.

والخوف يبرد جذوة الروح، ويقطع حب الوصل بالأمكنة، ويذهب عن بصيرتها الألوان، فكل ما في الخوف لائق بالعتمة والسواد. والمدن الخائفة، صورة بالأبيض والأسود، والازبال.

ليس في الأمر مبالغة. كلنا نملك امثلة على قلة النظافة. كلنا شركاء في حياة بين الانقاض. وكلنا يسرد الآن، قصص نسيان مشاهد بغداد النظيفة، ستكون اكثر بلاغة من هذه السطور.

لنسأل: متى أخر مرة شاهدت رجلاً، أو سيدة، رفعا عود ثقابٍ ووضعه في حاوية النفايات في مكان عام؟

حاوية النفايات انتقلت إلى معامل تدوير البلاستيك او المعادن في أطراف العاصمة.

النظافة في بغداد لا تقتصر على النفايات. الذوق العام في جعل المدينة نظيفة وسخ هو الأخر. وحين يأتي عمال لصيانة الشارع يضعون الواناً شاذةً، ويشوهون المكان، وحين يقوم أصحاب المصالح في المدينة بترميم أبنيتهم، يجلبون ورق الألمونيوم الرخيص.

كل شيء نظيف وجديد، لكن مظهره وسخ.

***

بغداد مدينة وسخة.. أليس هذا عنوان يستفز المجتمع المدني، والحكومة، لإطلاق حملةً نظافة.