الكنطرة

 

لم أكن أعرفه قبل قرار هجرتي القسرية والقصيرة إلى سوريا عام 2006، التقيته في مطعم (نينار) المطعم الاثير الينا نحن من هربنا من الهلع اليومي في العراق، الهلع الذي هرب منه صاحبي قبل أكثر من ثلاثين عاما، واليوم انا اهرب منه، كان يتحدث بصوت مبحوح، ويغني بنفس الصوت، لكنه عندما يغني يُرقِص القلب ثم يبكيه، يا (طيور الطايرة)، فتردد معه الشاعرة السورية رشا والرسام السوري عماد وعقيل صاحب المطعم، وجبر علوان يرقص بسنين عمره الكبير وقلبه الطفل، وفائز صبري يضحك، وباسم قهار يبتسم ابتسامته الماكرة المعروفة والحزن خط على وجهه تعابير قاسية، واميل يقهقه بحياء كركوك الطيب. نصرخ (احاه يا ديرة هلي)، احاه يا (حيرة) هلي. جواد الشكرجي يقلب ذاكرته عن عراق كلنا ننظر اليه على انه على شفى حفرة من الضياع، أبو حالوب يضحك بحزن ضحكته المعروفة. نخرج من (نينار)، المطعم او البار المقابل لكنيسة الأرمن في باب شرقي، وخلفه مسجد جامع -هكذا كانت دمشق- نمضي إلى تقاطع (دويلعة) لناخذ سيارة اجرة إلى مساكن برزا حيث يسكن صديقي لنكمل سهرتنا هناك.
في بيته يقص علينا قصص هروبه وموقفه من نظام صدام واعلانه التمرد على الفن وعلى الحزب الشيوعي الذي انتمى اليه، والذي بسببه هرب من العراق، كان يجن اذا جاء ذكر هذا الحزب، لعله كان يجن لفقد أصحابه مِن مَن ماتوا على قارعة السجون او المنافي، يتذكر فلان وفلان وفلان من الشهداء بعيون تترقرق موسيقى ودمع وحسرات، ثم يقوم متثاقلا لا بسبب عمره الذي يزحف إلى السبعين، بل من الهم الذي رافق خطواته الغريبة في بلدان غريبة وكذلك حلمه بعراق حر، عراق شريف كما كان يقول، كل الناس تعيش فيه بامان، عراق نصل اليه بعبور (كنطرة) الحب، لا الحرب.
جاء إلى العراق عدة مرات بعد سقوط صدام، مرة عندما تم تكريمه على خشبة المسرح الوطني، كان ينظر إلى الجمهور الذي يردد معه اغانيه بحماس منقطع وهو مندهش، قال لي بعد الحفل، انا سعيد يا حامد انهم يتذكرونني، بكى وهو يتسلم درع ابداعه الذي شتته (المحطات)، المحطات التي حملها في حنجرته دهرا من الهروب.
المرة الثانية التي جاء بها مخاطرا بطريق بري مفخخ بالذباحين وحوادث السير، كانت فجر يوم تظاهرة 25 شباط ليشارك الشباب انتفاضتهم، على كل ما حصل في العراق من فساد، وإرهاب، وقتل، وعملية سياسية فصّلت على مقاس الطائفية، كان يعتقد ان (الكنطرة) ستوصله إلى حلمه المستحيل، لكنه كان (يمشي ويكول وصلت، والكنطرة بعيدة)، نعم صديقي، الكنطرة بعيدة جدا، و (هوا الناس) لم يعد كما كنت تعتقد، فكلمة (نحبكم) صارت تجارة، و(صارت ايامي حزن) يا خوية، مثلك ما ظل الي (صاحبي) الي يعين على فهم ما يحصل في عراقك الذي كنت تبكيه كل ليلة نسهر فيها، عند صديقنا الجميل غسان الشامي، فوق احد مرتفعات لبنان فنشم الهواء المحمل برائحة الجمال البيروتي ونصيح (افيش) لهواء العراق المحمل برائحة الدم والبارود والخيانات، وتسأل روحك الثكلى، هل ستورد (بساتين البنفسج) من جديد في العراق؟ ام نبقى نرسل له (المكاتيب) من بعيد وهو يسكن القلب والروح؟ هل سنبقى نشتاق اليه (شوق الحمام) ونحن نسكن فيه؟ هل سنمد كفنا اليه، ونصيح، يا عراق... (تانيني)، ولك تانيني مليت من الحلم، تانيني، مليت من الخوف تانيني، مليت من الانتظار، ولك تانيني.
صديقي عرفت ان احدهم شتمك في رسالة خاصة، ووصفك بالدايح والسكير والجائع العايش على الاخرين، وغير ذلك من أنواع الصفات التي لا تدل الا على انك، دحت وسكرت وتشردت وبكيت وحزنت وجعت لانك لم تتنازل يوما عن عراقيتك مقابل منصب في وزارة متهالكة اسمها وزارة الثقافة العراقية، ولن تتنازل لو منحت اعلى منصب في العراق، موقفك هذا، في النظام السابق والحاضر، يكفيك فخرا وشرفا ووطنية.
صديقي، اشعر بالزهو لاني اكتب عنك، سأسهر حتى الصباح واعيد سماع اغانيك، وارقص معها، وأقول لك هامسا، صديقي كوكب حمزة، سنعبر الكنطرة، اعدك.
*ما بين الاقواس، أسماء الأغاني التي غناها او لحنها الفنان العراقي الكبير، كوكب حمزة.