أبهذه الخناجر تبنون العراق ؟؟ |
استقرت أقطار الكون كله منذ زمن بعيد, وتنعمت بالأمن والأمان, وتمتعت براحة البال والعيش الرغيد بعدما هشمت خناجرها الطائفية ورمتها في البحر, وبعدما غادرت مدن الموت والهلاك لتوحد صفوفها في مواجهة المخاطر المحدقة بها, وتوظف ثقلها كله في مشاريع البناء والتعمير والتطوير والارتقاء, فقطعت شوطاً كبيراً في تطبيق مبادئ العدل والإنصاف من دون أن تفرق بين لون أو جنس أو عرق أو ميول فكرية أو مذهبية, وهكذا عاشت أوربا بعد حروبها الكونية الطاحنة في فردوس التآخي والوئام, وتحررت تماماً من عقدها العرقية والطائفية الموروثة, بينما ارتميتم أنتم في مستنقعات الحقد والكراهية, وسارعتم لإحياء النعرات المدفونة في مزابل التاريخ, فتسلحتم بخناجر القتل والنحر على الهوية, وقتلتم الناس بدم بارد لا لشيء إلا لأنهم من أهل الشيعة, أو لأنهم من أهل السنة, حتى قتلتمونا كلنا, وطردتمونا من بيوتنا في الموصل والبصرة والناصرية وديالى. لقد خلطتم أغراضكم السياسية بالدين, فامتزج خداعكم بنقاء القيم السماوية, حين اغتالت السياسة عذرية الدين, فولدت فرق الموت لتعلن المتاجرة بالدين في أروقة التدليس, وبالاتجاه الذي يغذي تهافت السلاطين على صولجان السلطة. . من يقرأ القرآن الكريم قراءة متمعنة بعقل متجرد من الرواسب الطائفية الموروثة, ويتعمق في دراسة السنة النبوية, ويستطلع منهج آل بيت النبوة الأطهار, يكتشف أن دين الفطرة (الإسلام الرسالي) يتقاطع تماماً مع كل المناهج السياسية المبنية على الدهاء والخداع والغش والمداهنة, ويترفع فوق كل المهاترات الطائفية التي ولدت في أوكار التناحر السياسي المقيت. كنا نتمنى في ظل ما تعيشه الأمة من انقسامات يطفو فيها المذهبي على السياسي أن يظهر علينا قائد يتجرد من هوى التمذهب والتشدد والتخاصم ليعيد إلينا رشدنا وصوابنا, ويلملم صفوفنا المبعثرة, فيجمعنا على الألفة والمحبة والتواد, ويتعامل مع المعطيات التاريخية بروح الانتماء الوطني الواحد الموحد من أجل بناء مجتمع عربي لا ينتمي إلى الإسلام المُسيس. نحن الآن في أمس الحاجة إلى رجل مصلح يعيدنا إلى المربع الحضاري, فيرمم الذات والمجتمع على نحو إنساني, يهتم بجوهر المساواة والعدل, وينقي ما شاب مسيرتنا المتعثرة عبر هذه القرون المظلمة, فيخلصنا من ثقافة الدمار وصناعة الموت التي أحرقت الأخضر واليابس, وينقذنا من ممارسات الفكر التكفيري, وينتشلنا من مفردات السباب والشتيمة واللعن والجهل والفرقة والبدعة, ويخلصنا من الطقوس والمظاهر العبادية الدخيلة على الإسلام, ويحذرنا من تقديس الحكام والصنمية, ويرفع عندنا مؤشرات الوعي إلى المستوى الذي يؤهلنا لمقاومة برامج الاستغفال الذهني والتضليل الإعلامي, ويمنعنا من الانجرار خلف التيارات الهامشية والقضايا المفتعلة, ويعطينا القدرة على مواجهة الأنظمة ذات الطابع الاستبدادي, ويضع لنا القواعد الفقهية المشتركة, التي تجمع المذاهب الإسلامية في سفينة الهدى والنجاة. . فالخلافات الطائفية الموروثة والمتجددة والمستحدثة لم تكن موضوعية, ولم تكن حقيقية, وأن المنطق الاجتماعي يستسخف الجدل المستفحل في دهاليز التطرف الديني, ويضحك على ذقون أصحابه, فهو في نظر أهل الحكمة جدلاً قبلياً أو سياسياً أكثر منه جدلاً مبدئياً, وإلا أين الخلاف في الموقف من رسول الله ؟, وأين الخلاف في الموقف من القرآن ؟, وأين الخلاف في الموقف من القبلة ؟, وأين الخلاف في الموقف من الصيام ؟, وأين الخلاف في الموقف من مناسك الحج ؟, أليست هذه هي المحاور الرئيسة التي ترسم ملامح التنافر الحقيقي ؟. ثم إن الاختلاف بين التسنن المحمدي والتشيع العلوي ليس أكثر من الاختلاف بين عالمين أو فقيهين من ملة واحدة حول مسألة علمية, ويرى المفكرون المتعقلون: أن التشيع العلوي والتسنن المحمدي عنوانان لكتاب واحد, وطريقان متلاقيان, من يسير في أحدهما لابد أن يأتي اليوم الذي يلتقي فيه مع صاحبه ليتوحدا معاً في مسيرة واحدة. . ليس فينا من ينكر الاختلاف المذهبي, وليست هذه الظاهرة مقتصرة على الإسلام والمسلمين وحدهم دون غيرهم من أبناء الديانات السماوية الأخرى, لكننا نسعى من خلال كلامنا هذا إلى التفريق بين الاختلاف والخلاف, ونسعى إلى إشاعة ثقافة حسن الظن بالآخر, والابتعاد عن التشنجات, كي لا نقع في خطيئة التراشق والتكفير والزندقة, وأن ننتبه إلى ما يخطط له أعداء الأمة للوقيعة بين أتباع الملة الواحدة. وليعلم الناس جميعا إن المسافة بين الإسلام الرسالي والإسلام الطائفي هي عين المسافة بين الجمال المطلق والقبح المطلق. . ختاما نقول: متى يخرج علينا من يقودنا إلى الإسلام الرسالي, وينتشلنا من مستنقعات الطائفية البغيضة, التي تسللت منها بلدوزرات الإسلام المُسيس لتمزق نسيج الأمة, وتهدم صروحها بتوجيه من القوى الظلامية. . والله يستر من الجايات
|