حياة أئمة النور والهداية الربانية أهل البيت عليهم السلام الذين أذهب الله سبحانه وتعالى عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا (الأَحْزَاب:33)، مدرسة عطاء وتضحية وفداء وإباء وموعظة وهداية للمجتمع البشري من الظلام والضلالة نحو الصراط المستقيم الذي أبتغاه الخالق المتعال للانسان وهو الهدف من ارساله جل وعلا الرسل للبشرية على طول التاريخ . هم شمس وضاءة تشع بالخير والاستقامـة وتـوحـي بالكمال والهداية وسلوكهم يجسـد مبـادئ الرسالة السماوية يصعب على الكثير لقصر عقولهم أن يدركوا كل الادراك أن هناك لطفاً ألهياً وحكمة ربانية خفية في تكوين هذه الـشخـصيـات العـظيمـة وتشخيصها دون غيرها رغم الـظروف الصـعبـة التي تحيط بهم، حيث ان الواحـد مـنهـم يهدي بسلوكـه وعـملـه كمـا يهـدي بقـولـه وتوجيهه، كما جاء في القرآن الكريم (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) السجدة:24. والامام علي بن موسي بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أمير المؤمنين عليهم السلام أجمعين والذي نعيش اليوم ذكرى ميلاده الميمون والمبارك في الحادي عشر من ذي القعدة، هـو سليل النبوة ووارث اهل البيـت عليهم السلام وعلـم مـن اعلام الهدى والصلاح الذي كانت حياته شمس للعطاء والتضحية الوضاءة ومنـارا للمهتدين ودليلا للسائرين في طريق التقـوى والعبادة ومثلا أعلى فـي الاخـلاق والـسلـوك القويم . وقد عاش الامام الرضا (ع) في عصر ازدهرت فيه الحضارة الاسلامية، وكثرت الترجمة لكتب اليونانيين والرومانيين وغيرهم، وازداد التشكيك في الأصول والعقائد من قبل الملاحدة وأحبار اليهود، وبطارقة النصارى، ومجسمة أهل الحديث. فكان مجلس الامام علي بن موسى الرضا (ع) في مدينة جده المدينة المنورة عندما كان فيها وقبل أن يجبره الطاغية العباسي "المأمون" أن يتركها أو في مدينة طوس (مشهد) والتي فرضت عليه (ع) الاقامة بها الى جانب السلطة الديكتاتورية، كان في كلتي المدينتين يضم ليس فقط علماء مختلف الأديان السماوية بل وحتى رجال الإلحاد، حيث كانوا يناقشونه ويناقشهم بتمام العقل والأخلاق واللياقات والآداب، وكان عليه آلاف التحية والسلام يوضح لهم الحقائق وينتصر عليهم في النقاش. وفي تلك الأزمنة أتيحت للامام علي بن موسى الرضا (ع) فرصة المناظرة مع المخالفين على اختلاف مذاهبهم خاصة في مجلس "المأمون" العباسي بمرو (طوس) آنذاك فكان يظهر برهانه ويعلو شأنه ( يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) التوبة: 32، ويقف على ذلك من اطلع على مناظراته واحتجاجاته مع هؤلاء (لقد جمع الشيخ الطبرسي قسما من هذه الاحتجاجات في كتابه الاحتجاج 2: 170 - 237). والدارس لسيرته المباركة يلتمس حقائق إسلامية واضحة ومعجزات إمامية جمة تنطق بدور الامام علي الرضا (ع) في المتغير الاسلامي في تلك الظروف العصيبةالتي كان يعيشها تحت طائلة سيف "المأمون" العباسي، والذي تمكن (ع) من جمع الاسلام جغرافية وفكرا ومدارسا ورتب بمواقفه حقائق الامامة رغم كل الاضطهاد الذي عاشه وعلى طول أزمنة أجداده حتى انتهت مؤامرة "ولاية العهد" إليه كي يدفعوه نحو مشاركة السلطة الظالمة والخارجة عن نهج الرسول (ص) ووصاياه ودين الله سبحانه وتعالى الذي ابتغاه للناس جميعاً كخاتمة للاديان السماوية بقوله تعالى (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) آل عمران: ٨٥ . فكان الامام علي بن موسى (ع) يدرك كل الادراك ما وراء عرض الخليفة العباسي "المأمون" له بالقهر لقبول "ولاية العهد" ومنها ان يجعل الامام (عليه السلام) قريبا منه ليتمكن من عزله عن الحياة الاجتماعية وابعاده عن الناس، وابعاد الناس عنه ، حتى لا يؤثر عليهم بما يمتلكه من قوة الشخصية وبما منحه الله اياه من العلم والعقل والحكمة . وقد تجلى أحد أهداف هذه المؤامرة العباسية على دور ومكانة الامام الرضا (ع) في حادثة طلب الطاغية "المأمون" من الامام الرضا (ع) أن يؤم الناس في صلاة العيد ب"مرو" فخرج (ع) بروح وروحانية صلاة عيد رمضان المبارك مجسدا سنة النبي الأكرم (ص) وليس كما يخرج بني العباس وأشياعهم. ولما سمع الناس بذلك قعدوا لأبي الحسن (عليه السلام) في الطرقات والسطوح، واجتمع النساء والصبيان ينتظرون خروجه، فاغتسل (ع) ولبس ثيابه وتعمم بعمامة بيضاء من قطن، ألقى طرفا منها على صدره وطرفا بين كتفه، ومس شيئا من الطيب، وأخذ بيده عكازة وقال لمواليه: "افعلوا مثل ما فعلت" فخرجوا بين يديه وهو حاف قد شمر سراويله الى نصف الساق وعليه ثياب مشمرة، فمشى قليلا ورفع رأسه الى السماء وكبر وكبر مواليه معه، فلما رآه الجند والقواد سقطوا كلهم عن الدواب الى الأرض، ثم كبر وكبر الناس، فخيل الى الناس أن السماء والحيطان تجاوبه، وتزعزعت "مرو" بالبكاء والضجيج لما رأوا الامام الرضا (ع) وسمعوا تكبيره، فبلغ المأمون ذلك فقال له الفضل بن سهل: إن بلغ الرضا (ع) المصلى على هذا السبيل فتن به الناس، وخفنا كلنا على دمائنا، فأنفذ إليه أن يرجع. فأرسل إليه من يطلب منه العودة، فرجع الرضا (ع) واختلف أمر الناس في ذلك اليوم (الإرشاد: 312). وقد تواترت عن الامام الرضا (ع) الكثير من الأخبار والعلوم والقضايا الفقهيّة وسلوك الحياة الاجتماعية وما الى ذلك، فقد جمع بعض أصحابه (15) ألف مسألة من المسائل التي سئل عنها الامام الرضا (ع) وأجاب عنها حيث لا يتسع المقال الصغير هذا من ذكر حتى اليسير من الخصائل الجمة والعالية لهذا الامام الهمام التي أضحت مسيرة لهداية المسلمين وشمساً لتنير درب ليس الضالين لوحدهم بل حتى المؤمنين والعارفين . وورد عن الامام علي الرضا (ع) أنه قال: "لايكون المؤمن مؤمناً حتى يكون فيه ثلاث خصال : سُنّةٌ من ربّه، وسُنّةٌ من نبيّه، وسُنّةٌ من وليّه، فأمّا السُنة من ربّه : فكتمان سرّه، قال الله عزّ وجلّ: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ) الجن: 26 – 27 . وأما السنّة من نبيّه: فمداراة الناس، فإن الله عزّ وجل أمر نبيّه (ص) بمداراة الناس، بقوله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وأعْرِضْ عن الجاهلين) الأعراف: 199. وأما السُنّة من وليه : فالصبر في البأساء والضرّاء، يقول الله جل جلاله: (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) البقرة: 177 ". فصلوات الله وسلامه على الامام علي بن موسى الرضا وعلى أئمة أهل البيت علسهم السلام أجمعين ، يوم ولدوا ويوم عاشوا ويوم استشهدوا ..وهم أحياء في الشهداء والخالدين .
جميل ظاهر |