الاحتيال السياسي وخداع الرأي العام... قانون التقاعد انموذجا

 

ربما كان للاحتيال السياسي ما يبرره في العلاقات الدولية والسياسات الخارجية, طالما كان الهدف هو خدمة البلاد وفق المبدأ الميكافيلي "الغاية تبرر الوسيلة" التي نفتقدها تماما, بل غالبا ما تقمص محتالونا السياسيين دور الضحية الساذجة التي تقع ضحية الاحتيال الخارجي مقابل منافع شخصية على حساب المصالح الوطنية, ومع هذا فان الاحتيال السياسي يفقد كل مبرراته في إدارة شؤون البلاد الداخلية, ويتحول من دهاء سياسي إلى انتهازية وضيعة لمخادعة العقل الجمعي واستقطابهم واستمالتهم, تعكس التركيبة السايكولوجية والبيئة الشاذة التي نشأ بها هذا المحتال, وضعف ولاءه الوطني وتغليب مصالحه الشخصية على المصالح الوطنية في طريقة إدارته الدولة, والسير بها نحو الانحطاط في كل مجالاتها, ولعل أخطرها هو الانحطاط ألقيمي المجتمعي الذي يترسخ على أيدي أولئك المحتالين. 
ومما لاشك فيه إن المالكي يعد من ابرز الزعماء الذين تسيدوا الساحة السياسية بتناقضاته الخطابية, بل إن ديماغوغيته هي الصفة الوحيدة التي أهلته لتبوء منصبه, فهو من الخطباء البلغاء المتحمسين على الدوام لخداع الجماهير, مع وجود تنافر وتباين كبير في خطاباته يكمن في البون الشاسع بين التصريحات ومقتضيات تدبيجها بأرفع الكلمات وتزيينها بالوعود والانجازات, وبين الواقع الفعلي الذي يكذب ذلك الخطاب, حيث سرعان ماتتهاوى الشعارات وتصدم الجماهير بواقع معكوس تماما تتناقض فيه الأقوال مع الأفعال, هذا ان لم يكن خطابه جاء معكوسا لواقع الأحداث من الأساس, وهذه الازدواجية ليست حالة آنية عابرة, بل تكاد تكون هي الصفة المتلازمة التي تتصف بها تصريحات المالكي مع فعاله.
ما أن أحال رئيس الوزراء نوري المالكي قانون التقاعد العام لنائبه لشؤون الطاقة"حسين الشهرستاني" الشخصية الحالمة التي يحتفظ العراقيين بذكريات مريرة عنها لتشريعه, حتى توجسنا خيفة مما سيؤول إليه القانون, وانتاب الشارع العراقي حالة من الارتياب بصدقية الحكومة في تنفيذها لمطالب المتظاهرين والمتعلقة بإلغاء الرواتب التقاعدية للدرجات الخاصة وإصدار قانون موحد للتقاعد بديلا عنه, وان خديعة سمجة ستنفذ ويجري الالتفاف على مطالب الجماهير, فالمالكي الذي وقف بكل ما أتته سلطاته من قوة شرعية وغير شرعية للحؤول دون قيام التظاهرات عاد بديماغوغيته ليعلن انه مع مطالب المتظاهرين بعد أن وجد إن المتظاهرين لا يعبئون بوعوده ووعيده, فاخرج قانونا بائسا للتقاعد أسوأ من سابقه سمي جزافا بالقانون الموحد وضعت فيه امتيازات للنخبة السياسية دون وجه حق, فلأول مرة نسمع إن هناك "خدمة جهادية" تمنح وفق قانون الانتهازية السياسي لمن قضى السنوات العجاف التي عاشها العراقيون وهو متنسما هواء أوربا العليل ومتنعما برواتب أجهزة مخابراتها, وان هناك خدمة تلقائية لا تقل عن خمسة عشر سنة للهيئات الرئاسية والوزراء, وان هناك خدمة ممتازة تتضاعف حسب الرضا والمقبولية من هذا الطرف النافذ أو ذاك, واغفل القانون تماما وضع سلما للرواتب لإيجاد نسبة وتناسب بين الحد الأدنى والأعلى للرواتب, وهذا ما يفتح الباب واسعا لمنح المسؤولين أنفسهم المزيد من الحقوق للارتقاء في هذا السلم الذي يعد هو الأكثر تباينا في العالم يبلغ أكثر من (300) ضعفا بين حديه الأعلى والأدنى بينما في الولايات المتحدة الاقتصاد الأول عالميا لا يزيد التباين بين الحدين عن (11) ضعفا.
من الحماقة أن يتصور مزاولوا الاحتيال السياسي إمكانية الضحك على ضحاياهم بصياغة العبارات المنمقة وقدراتهم الخطابية وإطلاق والوعود والتعهدات من دون الوفاء بها خاصة مع شعب خبر هذه الأساليب جيدا, وإنما هم بذلك يكشفون عن خواءهم السياسي والأخلاقي وبيان معدنهم الحقيقي الذي لا يمكن توريته بتناقضاتهم.